كتاب عربي 21

التفاهة المؤسسية

جعفر عباس
1300x600
1300x600

نبقى مع كتاب "نظام التفاهة" للفيلسوف الكندي ألن دونو، الذي ظل طوال عقد كامل محل الدراسة والتقييم، في البلدان التي فيها للعلم والدرس والنقد والتحليل مكانة عالية، وتفاديا للوقوع تحت طائلة "التفاهة"، فإنني أعلن أنه، وكما "إني أمرؤٌ مولعٌ بالحسن أتبعه/ لا حظ لي منه إلا لذة النظر"، فحظي من هذا المقال هو العرض البديع للكتاب والتعقيب عليه من الأديب والكاتب المغربي الدكتور الكبير الداديسي. 

فقد تسنى له قراءة الكتاب، الذي لم أسمع به إلا منه، والأستاذ الجامعي السوداني، صبري محمد خليل.

 

يقول الداديسي إن التافهين أخذوا زمام المبادرة، ورسن توجيه المجتمع وتخطيطه الاستراتيجي بتحكمهم في الثروة، وبهذا فقد يملك شاب رياضي فاشل في الدراسة، أو مغنية أوصدت أبواب المدارس في وجهها باكرا، ما تعجز النار عن حرقه، وما لا يمكن أن يملك جزءا منه كل مثقفي الأمة طيلة حياة عملهم وكدهم من المال.

 


ويستقبل الفائز في مسابقة غنائية محلية استقبال الفاتحين، ولا يلتفت أحد لفائز في مسابقة عالمية للمخترعين والعلماء (والله أخجل للمسؤولين العرب، الذين يعلنون التعبئة العامة لضمان فوز زيد أو زبيدة في مسابقات تقليد المطربين بمسمياتها المسروقة من القنوات الأمريكية، ثم حشد الجماهير لاستقبال "الفائزين" في المطارات).

يقول الداديسي استنادا الى طروحات دونو، إن مفهوم "الوظيفة" قد تسلل إلى كل هياكل المجتمع والدول، وأصبح الوزير ورئيس البلدية والعامل، مجرد موظفين يؤتى بهم من أجل مهام معينة في مدد معينة، والشاطر من يؤديها على أحسن وجه وبأقل التكاليف، ولتحقيق ذلك يجب عليه وضع منظومة القيم جانبا (على الرف)، والاستعاضة عنها بمفاهيم الشراكة والفعالية والمردودية.

وهذا في رأي الداديسي، ما جعل المؤسسات العمومية كالمستشفى، والمدرسة والمسجد، والبلدية والميناء، ومحطة القطار، التي يفترض فيها توفير خدمات للمواطنين، مجرد شركات تدار بالتدبير المفروض من مراكز القوى، وقوة ضغط اللوبي المُسيِّر، ومفروض عليها في نهاية السنة مقارنة المداخيل بالمصاريف واستخلاص الربح الصافي، والمدير الجيد من كانت منحنيات الربح معه في تصاعد، يصل بمؤشر الربح أعلى المستويات.

وهي مفاهيم واعتبارات لا تتناسب والمنظومة القيمية التي تشكل جوهر الإنسان، لأنها تسلب الإنسان إنسانيته، وتسلبه كل قيم المواطنة، فيصبح المواطن، مجرد ساكن / قاطن ورقم موجود تحت رحمة التافهين من الموظفين، الذين ارتقوا درجات سلم الوظيفة دونما حاجة للطرق التقليدية المعلومة كالدراسة، والكفاءة والمكابدة والتدرج.

بعبارة أخرى فإن النجاح في ظل نظام التفاهة يصبح صنو المال والسلطة التي بيد اللوبي (اقرأ المافيا إن شئت)، وهي أمور لا يجيدها المثقف، لأنه يلتزم بمنظومة قيم ولا يراوغ ولا يهادن ولا يستسلم، "فقد ضحى مثقفون بحياتهم دفاعا عن أفكار خصومهم، ومنهم من قضى من أجل مبدأ يؤمن به، وكان التزحزح عنه قيد أنملة كافيا ليجعله من أعيان اللوبي المسيطر".


ويبدو الداديسي أكثر غضبا من الفيلسوف دونو نفسه، لسبب بدهيٍّ، وهو أنه جزء من عالم (عربي)، يسيطر التافهون فيه على جميع أوجه الحياة، بينما "المثقف كان ولا زال وسيظل شوكة في حلوق التافهين، ومسمارا في نعالهم يعرقل سيرهم ويكشف عوراتهم". 

ولهذا فقد تسلل التافهون إلى مختبرات تفريخ المثقفين (المدارس، والجامعات) وحولوها إلى مراكز للتلقين الببغاوي، "مستعيضين عن المثقفين بخبراء كل همهم جعل الجامعة في خدمة السوق وجعل العقول تتناسب وحاجات الشركات، وتخريج يد عاملة لا تعرف إلا الطاعة والولاء، تفتقر للحس النقدي، ولا تفقه شيئا خارج مجال تخصصها".

وبما أن المؤسسات التعليمية خطر على التافهين ونظامهم، فكان لابد لهم من ضرب التعليم، وقصر وظيفته على إعادة إنتاج وتخريج التافهين، من خلال نشر ثقافة "صل بخط/ اختر الجواب الصحيح/ ضع علامة في المكان المناسب"، وهي ثقافة تكرس التفاهة، وتقتل التحليل والنقد وتنبذ الموسوعية، وتنتج طبيبا في العيون لا يعرف شيئا عن أمراض الأذن، وطبيبا متخصصا في القلب لا يعرف أمراض الرئة، وأستاذا في الرياضيات أو الفيزياء لا يضبط اللغة.

 

إن نظام الرداءة والتفاهة- والكلام هنا للداديسي- يسمح لتافه أمي بأن يتاجر في المخدرات، وأن يبيض أمواله فيبني مستشفى ليشغِّل الأطباء، ويبني مدرسة ليشغِّل الأساتذة، وينشئ شركة مقاولات ليوظف المهندسين، ليغدو هو الرمز والقدوة في المجتمع، ومن ثم أصبحت القدوة عندنا هم التافهون، لأن ثقافة الاستهلاك تجعل الإنسان كائنا مستهلكا مثل الحيوان، خاضعا لمنطق السوق كالسلع، قابل للتعليب كالسردين، ومن لا يعجبه هذا النظام فللتافهين زبانيتهم الذين لا حدود لتهورهم ورعونتهم في سبيل المال وطاعة كبيرهم.

 


ويرى الداديسي أن مواجهة التفاهة مهمة عسيرة لا يقوى على الاضطلاع بها سوى المثقفين، عندما يتمكنوا من إعطاء المفاهيم والقيم والأفكار معانيها الحقيقية، انتصاراً لآدمية الانسان، في زمن تداس فيه يوميا أمور مثل الكرامة والمصلحة العامة، والتضحية، والالتزام، "وهي مفاهيم لا يمكن أن تنبث إلا في المؤسسة العمومية، وكاذب من يزعم بإمكان زرعها في القطاع الخاص القائم على مبدأ الربح والخسارة".

وبهذا يكون دونو قد جعلنا ندرك الإجابة على السؤال الذي ظل يقلق كل ذي ضمير حي: كيف
أصبح ضعاف المستوى الثقافي/ التعليمي من المغنيين والرياضيين والفنانين والسياسيين في مراكز القرار يمثلون قدوة للشباب، وتم تهميش القدوة التقليدية المكونة من الأستاذ، والطبيب، والمهندس، والفقيه، والكاتب والمثقف؟ ولماذا أصبح قدوتنا هذا التافه أو ذاك.

رحم الله أبا الطيب:

 

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن/ يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية/ شر على الحر من سقم على بدن
حولي بكل مكان منهم خلق/ تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
....
فقر الجهول بلا عقل إلى أدب/ فقر الحمار بلا رأس إلى رَسَن

1
التعليقات (1)
محمد صخر
الأحد، 06-05-2018 03:52 ص
الرويبضة يا استاذنا الكبير ،هو هو،الذي حذّر منه الرسول (ص) التافه الذي يتحكم في أمور العامة