قضايا وآراء

ما قاله لي دمُ فادي البطش!

براء نزار ريان
1300x600
1300x600
كنت في السابعة عشرة من عمري ربّما، طالبا في الثانوية، وبترتيب من الوالد رحمه الله، التقيتُ فادي، كان طالبا مميزا في كلية الهندسة، ربما في العشرين من عمره آنذاك، معروفا بالذكاء الحادّ وسعة الاطلاع، وقيل لي إنني سأفيدُ من مجالسته، وسأفرح بصحبته، وكذلك كان.

كنا نتذاكر دقائق النحو، وألغاز العربية، ونتطارح الأشعار. وفي أحد مجالسي معه، قال لي: أريدُ أن أعلّمك مسألة في نطق الكلام العربيّ، تستعملها في التلاوة وإلقاء الشعر والمحاضرة وسائر الكلام، لا يعرفها أكثر الناس، لكن يشعر بها كل أحد، ثم استرسل في شرحها بأحسن عبارة، يحضرني معظمه الآن لكنه أمرٌ يطول، وتعلمتُها منه في ذلك اليوم حتى الآن.

بعد عشر سنين ربما، لقيتُ أحد الأساتذة الفضلاء، من خواصّ العارفين بالعربية، فقال لي: دعني أعلّمك مسألة دقيقة لا أظنّك سمعتَ بها، فإذا هي المعلومة ذاتُها، فضحكتُ وقلت له: إنني أعرفها منذ الصِّبا، وتذكرتُ فادي.

كانا مجلسين عظيمين، وكان فادي بحرا وقفتُ بساحله، قلّ أن بهرني إنسانٌ كما صنع فادي، في غير تكلّف منه ولا تصنع، وكان هدوؤه واتّزانه قد منحاه هيبة فوق هيبة العلم، فإذا أضيف إلى ذلك جسده الضخمُ، استوى أمامي - برغم قرب السنّ بيني وبينه - أستاذا كبيرا وأثيرا، بقيت له في قلبي ذكرى لا تنمحي.

انقطعت بيننا الاتصالات والأخبار، تفرّقت بنا سبل الدنيا، ورغم أنني عسيرُ الاستحضار للصور والأسماء، إلا أنني حين بلغني خبره، تمثّل لي في جزءٍ من الثانية، بوجهه المحبب الهادئ، وجلسته المتواضعة، وصوته الدافئ الممتلئ علما وحكمة، انقلب لذلك الخبر كياني، وتبعثرت روحي، وبكى قلبي، بكى حتى آلمني صدري، وارتعشت أطرافي!

حزنتُ لهذه الخسارة العُظمى. هو خسارةٌ شخصيّة لي، رغم البُعد، فإنه معلّمي الذي لا أنساه، وخسارةٌ لفلسطين التي هي أحوجُ ما تكون لمثله، وخسارةٌ للعرب في تخلفهم المرّ، وخسارةٌ للمسلمين وللعالم بأكمله.

كان فادي بالنسبة إليّ أمثولة الشابّ وافر الإيمان، في زمن الجفاف والتصحّر، وكنتُ أرى في وجود مثله الصلاح والكمال، مستحضرا ما أنا فيه من ضعف ونقص، وكان أجمل ما يكون قارئا للكتاب الكريم، متقنا له أتمّ الإتقان، كأعظم المقرئين، وأتقن المجوّدين، يدخلُ صوتُه إلى أعماق القلب، يُشرقُ في ظلمات الروح، وما أجمله إذ تسمعه وجها لوجه، وما أروعه إذ يقرأ لك أنت، لك وحدك! الله الله يا فادي! ويا تلاوة فادي!

ساعة قُتل فادي، كنتُ ساهرا طوال الليل، وجاءني خبرُه صباحا، فلم أطق نوما، قال لي من حولي: ما أعجب حُزنك عليه، وبينكما كل هاتيك السنين! والحقُّ أن حزني عليه معقّدٌ أكثر من مسائل الفيزياء، لكنّ أحد أكبر آلامي كان غدر العدوّ به من حيثُ كان آمنا، واغتياله له عنجهيّة وظُلما مبينا، واستهدافا للكفاءة العلمية لا دفعا للخطر الأمنيّ، ثمّ فوق ذلك أنه لم يُتح له أن يدافع عن نفسه، ولا أن يستعدّ لمعركة. قتلوه خارجا لصلاته، خالي البال، مغدورا شهيدا.

حزنتُ لشبابه المهدور، ومستقبله الأزهر الذي أشرقت بداياته، وهو ابن الخامسة والثلاثين، قد ابتسمت له دنيا العلم والعمل، ووضع قدمه على سُلّم المجد، حتى جاء العدوّ الجبان ليحرمنا وصغاره وأهله والعالم كله هذه القامة العظيمة، والهامة السامقة، لا يعزينا في هذا الحرمان إلا استذكارُ مقام الشهادة، الذي هو فوق كل مقام، والخاتمة الكريمة التي يتمناها كل مؤمن.

ما خسر فادي، إنما فاز بإذن ربه، لكننا نحنُ الذين خسرنا إذ لم يعُد في عالمنا، وكان موتُه تذكيرا جديدا لنا، برخص دمائنا وهواننا على العالم، وإنني لأستحضر قصة العميل الروسيّ ببريطانيا، وكيف انقلبت الدنيا بسبب محاولة قتله، وهو عسكريٌّ سابقٌ وجاسوس لعله كان يتوقع هذه الميتة كل يوم.. ورغم ذلك كله، ارتجّت أرجاء الشرق والغرب لهذه المحاولة، وطردت بعثاتٌ وجمّدت علاقات، وانهمرت الاتهامات والتهديدات!

إن دم الشهيد دعوة مفتوحةٌ للفلسطينيين والعرب، أو دعوتان. هي دعوةٌ للشباب ليروا قيمة العلم والتميز فيه. هذه القيمة التي جعلت دولة الاحتلال تستهدفُ فادي كعصابة لصوص أو قاطعي طريق، وهي دعوةٌ للأمّة كلها أن تنهض بنفسها حتى يعود لدمها ثمنه الغالي، ولأرواح أبنائها القيمة التي تستحقّها، وإلى ذلك الحين، سنبكي فادي وكلّ فادي يسرقه العدوّ منا في غفلةٍ من الزمن، وتغافلٍ من الناس، وتآمر من حكام الأرض!
التعليقات (1)
اينشتاين
الثلاثاء، 24-04-2018 01:14 ص
نعزي أنفسنا قبل أن نعزي إخواننا في فلسطين كما تعودنا أن نعزي أحرار أمتنا في كل حين ، فادي واحد ولكنه في ميزان أمة التوحيد ليس واحدا ، إذ يمكن أن يكون ممن يصدق عليهم : ( إن فلانا كان أمة ) ، لذلك وجب أن نقرأ وأن نتعلم من فادي ومن أمثال فادي الذين سبقوه ، والذين سيلحقون به ، لعلنا نظفر بما ظفروا به جميعا ، فنظفر بشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم .