مقالات مختارة

الاستثمار الإسرائيلي الأسود في مجزرة دوما الكيميائية

1300x600
1300x600

الهجوم الإجرامي بالسلاح الكيميائي على مدينة دوما فتح ثغرة كبيرة ووفر فرصة ثمينة للكيان الإسرائيلي لتجاوز القيود النفسية والسياسية والميدانية التي قيدت حركته خلال الأسابيع القليلة التي تبعت إسقاط طائرة إف 16 الإسرائيلية؛ والأهم أنها أتاحت للكيان للإعلان عن نفسه كطرف في المعادلة الإقليمية لا يمكن تجاهله في ظل أزمة داخلية وصراع محتدم مع الفلسطينيين وتقارب مقلق بين الإيرانيين والأتراك والروس؛ فالكيان الإسرائيلي متضرر من تقدم محور تركيا إيران روسيا ومن تراجع فاعلية المحور الأمريكي وتقهقره وضعف فاعليته في الترتيبات الجارية بالغوطة التي من الممكن أن تمتد إلى درعا مستقبلا.

مسارعة الكيان الإسرائيلي لشن عدوان جديد واستهداف مطار التيفور السوري يحمل دلالات كبيرة وخطيرة؛ إذ يمثل استباقا إسرائيليا خبيثا للأحداث تمكنت من خلاله توظيف حالة الارتباك والتردد الأمريكي التي أعقبت الهجوم الكيميائي؛ فالفوضى والتشتت باتت سمة لعملية صنع القرار في أمريكا؛ فالهجوم استبق بشكل واضح اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي والقيادات العسكرية الأمريكية للتباحث في آليات الرد والتعامل مع الهجوم الكيماوي على دوما طارحا بذلك تساؤلات معقدة جدا.

فمستوى التشويق كان كبيرا أثناء الغارات وبعدها بسبب الغموض الذي ساد حول الجهة المسؤولة عن الهجوم ما دفع المسؤولون الأمريكيون بعد ذلك لنفي مسؤوليتهم عن الهجوم بل لم يترددوا بعد ذلك بالإقرار بأن الكيان الإسرائيلي أبلغهم مسبقا بشن الغارة على المطار العسكري؛ ما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تضع عوائق أمام الغارة وأن الهجوم تحول إلى عملية جس نبض أولية وترقب لردود الفعل الروسية؛ الذين كشفوا الجهة المهاجمة وأعلنوا تارة بأن الدفاعات السورية تصدت للغارة وأنها تمكنت من إسقاط خمسة صواريخ من أصل ثمانية وفي تارة أخرى تناقلت وسائل إعلام بأن الدفاعات الروسية هي من تصدت لهذه الصواريخ؛ رسائل تحذير خفية تفاعلت ببطء شديد.
الغموض والتشويق يزداد بمرور الساعات فأمريكا ما زالت تتدارس سبل الرد وما زالت تواجه إشكالا كبيرا في عملية صنع القرار؛ فالرئيس ترامب يريد الانسحاب والبنتاغون يريد التأني لتكون العملية ضمن صفقة يتفاوض عليها لضمان أمن ومصالح الكيان الإسرائيلي، أمر تخشاه أمريكا خصوصا بعد الاجتماع الثلاثي بين بوتين وروحاني وأردوغان في أنقرة بداية هذا الأسبوع.

أمريكا تعاني من مأزق ميداني كبير في سوريا، فهي معزولة عمليا وبدون حلفاء يعتمد عليهم وقدرتها على التفاوض وفرض شروطها محدود بعد تراجع مكانة حلفائها الأكراد في العراق وسوريا وتشتتهم وتمزقهم وانقسامهم؛ سوريا لم تعد مكانا آمنا أو مريحا لأمريكا؛ ولا يوجد سبب يدفعها للتمسك بوجود عسكري إلا الكيان الإسرائيلي وضمان مصالحه في المنطقة الجنوبية، فأمريكا تريد أن يحجم الروس النفوذ الإيراني وأن تضمن مصالح الكيان وأمنها؛ أمر بات معقدا وشائكا جدا في ظل تعدد الفاعلين.

التشتت والانقسام والارتباك في عملية صنع القرار الأمريكي بدا واضحا بعد الهجوم الكيميائي على دوما؛ فالبنتاغون تشكك بالهجوم الكيميائي بداية ولم يبادر إلى تأكيد الهجوم على دوما إلا بعد أن تناقلت وسائل الإعلام صور الهجوم الإجرامي اتبعها ترامب بتصريحات غير مسبوقة تضمنت شتائم واتهامات لإيران وروسيا معبرا عن استيائه الشديد لا من الهجوم ونتائجه بل من الحرج الذي تعرض بعد دعوته للانسحاب الأمريكي من سوريا محملا إيران وروسيا المسؤولية عن هذا الإرباك.
الهجوم الكيميائي في دوما بهذا المعنى وفر فرصة كبيرة لكسر حالة الجمود وتحريك المياه الراكدة في أمريكا والإقليم سرعان ما التقطها الكيان الصهيوني واستثمرها بسرعة البرق؛ دافعا نحو التساؤل عن حقيقة الهجوم الكيميائي على دوما وطبيعته.

في سوريا لا يوجد تفسير أحادي للأحداث لتعدد الفاعلين في ظل صراع لا يحمل في طياته أي احترام للمعايير العقلانية والمنطقية المادية فكيف الحال بالمعايير الإنسانية إذ كان المراد منها تعديل موازين القوة في سوريا؛ دون أن ينفي وجود طرف ثالث خفي يسعى لخلط الأوراق.

فالسيناريوهات متعددة لتفسير هذه الثغرة التكتيكية؛ فالنظام السوري في حالة تقدم وروسيا تخوض مفاوضات مع جيش الإسلام والفصائل السورية للوصول إلى تسوية ميدانية على الأرض ما يجعل قرار الهجوم على مدينة دوما قرارا أخرق ويعكس قدرا من الإجرام الممزوج بالغباء والتوحش؛ فالنظام متحفز ويستعجل الحسم في الغوطة الشرقية بأسرع وقت ممكن؛ غير أن الأجندة المتصارعة في معسكر النظام وحلفائه تتيح المجال لأصحاب الأجندة المتصارعة لارتكاب حماقات؛ خصوصا وأن التقارب مع تركيا والمفاوضات الدائرة في الغوطة تتعارض مع أجندة الأجنحة المتطرفة التي تسعى لتمرير سياسة التهجير القسري في الغوطة.

لا شك أن الهجوم الكيميائي فتح ثغرة أتاحت للكيان الإسرائيلي الاستفادة منها للمناورة ومحاولة الظهور بمظهر البطل المغوار أمام المجتمع الدولي في استثمار أسود وخبيث؛ خصوصا بعد أن غرق بفعاليات مسيرة العودة وتداعياتها الدولية والإقليمية؛ وهنا تكمن العبرة في مسار الحرب السورية وتعقيداتها؛ فالحرب في سوريا لم تحسم بعد ومسار الصراع الدائر يعطي مساحة واسعة للمناورة وخلط الأوراق.

فالكيان الإسرائيلي كغيره يستشعر مخاطر التقارب التركي الإيراني الروسي ويستشعر مخاطر الانسحاب الأمريكي والعجز عن إجراء ترتيبات تضمن مصالحه وأمنه؛ والأهم أن الكيان يعاني من أزمة داخلية ومواجهة ساخنة مع الفلسطينيين تضغط على أعصابه وأعصاب مؤسساته الأمنية؛ ما يجعل من حادثة دوما الكيميائية بمثابة فرصة وانفراج تسمح لأمريكا والكيان للعودة إلى رادار الفعل والتأثير السياسي عبر عمليات جس نبض ولعب بالأعصاب تسمح بالضغط على روسيا والعبث مع تركيا وإيران ومحاولة تفكيك التقارب القائم بين الدول الثلاث.

حادثة الكيماوي فرصة تستثمر فيها أمريكا بتردد ويندفع نحوها الكيان باستماتة في حين تقاومها روسيا التي تملك أوراقا قوية ولا ترغب في التنازل عنها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإن أدت إلى هجمات وغارت أمريكية لن تكون فاعل ومؤثرة في الساحة والميدان السوري فسرعان ما ستتبدد آثارها وتتلاشى كسابقتها بعد حادثة خان شيخون؛ فالقصف الأمريكي لن يحدث فارقا كبيرا لروسيا ولكن سيفتح الباب لتركيا لمزيد من المناورة والفعل في الساحة السورية التي ستضيق على الأمريكان والإيرانيين.

السبيل الأردنية

0
التعليقات (0)