قضايا وآراء

عن " حكمِ القانون" وحظوظِ توطينه في الثقافة العربية

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

                                                                                         
أصبح "حكم القانون"Rule of Law  من المفاهيم الأكثر رواجاً وتوظيفاً في الخطابات الوطنية والدولية، ويمكن القول أن نصيبَه من الاستعمال في الدائرة العربية  وصلَ حدا من الكثافة والتضخم  والتكرار جعل البعض يتساءل عن مدى حضور " حكم القانون" في واقع الحياة السياسية العربية ، ثقافةً وفكراً وممارسةً.

 

بل إن جانباً من الدراسات التي سعت إلى إجراء مقاربة نقدية للمفهوم إستبعدت حقيقة ميلاده أصلاً ، وشددت على  توظيفاته الإيديزلوجية في الخطاب السياسي الرسمي، وتزكية بعض قطاعات المجتمع ودعمها لترويج فكرة " حكم القانون " والدفاع  عن بداية انغراسها في المجال الساسي العربي.

 

بيد أنه إذا كانت الحاجة ماسةً إلى توطين المفهوم في الثقافة السياسية العربية، وتعزيز إمكانيات صيرورته قيمةً مشتركةً بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع ومختلف تعبيراته، فإن الأمر  يستلزم  قبل كل شيء الاجتهاد في تبيئته وتأصيله في النظر العربي، قبل  التسليم بوجوده ، والتسرع في الإقرار بفعلية إستقراره، وفاعلية تأثيره في الحياة السياسية العربية.


من نافل القول الإشارة إلى أن " حكم القانون" مفهوم وافد على المجال السياسي العربي ، حيث ترجع مصادر ميلاده كفكرة إلى الأصول الهيلينية و الجرمانية اللاتينية، حين اشتركت الشرائع الدينية والموضوعية في تأكيد حق البشر جميعاً في التمتع بثمرات العدالة و مكاسب الحقوق والحريات، ومنافع التقدم في تعميق حقوق الإنسان والمواطن، حدث ذلك مع الثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر، واجتهادات الفلاسفة والمفكرين في القرن التاسع عشر .

 

فحكم القانون، كما أسسته تطورات هذين القرنين، وأصَّلته مساعي المفكرين لاحقاً، يعني تحديداً تلك " القاعدة الحصرية الناظِمة لعلاقة المواطنين بالسلطة ، وعلاقة السلطة  بالمواطنين "، مما يعني أن القيمة البيداغوجية  والسياسية  للمفهوم تكمن في قدرته على تأطير الصلة بين الدولة والمجتمع ، بشكل يجعلها مقبولةً، متوازنةً، وتحظى بالشرعية والقبول..

 

إن حكم القانون هو الذي يحول السلطةَ، وسلطة الدولة على وجه التحديد ، إلى قوة مادية ورمزية غير قهرية ولا ظالٍمة، كما يسمح لحريات المجتمع بأن تكون راشِدةً، مسؤولةً ، وناجعةً على صعيد الممارسة والتطبيق . 

 

ويعتبر المفهوم ، من زاوية ثانية، شكلاً من أشكال إدارة الحكم، يخضع الجميع، بمن فيهم الحكام والمؤسسات والكيانات والهيئات العامة والخاصة ، للمساءلة أمامه بعدل وإنصاف ومساواة،  عبر قضاء مستقل ونزيه وفعال، كما يحمي حقوق الإنسان ويتيح للمواطنين فرصَ المشاركة في صنع القرار ، ويقيم الفصل بين السلطات، ويحقق الشفافية في الإجراءات والقوانين. 


يصعب الإقرار بوجود صورة وردية لحكم القانون في البلاد العربية. فالمفهوم ، الذي ما زال يتلمس طريقه للتشكُّل والإكتمال، يصطدم ببيئة حاضِنة حبلى بعوامل التعقيد والإعاقة، إذ يلعب الموروث التاريخي والسسيوثقافي ، لاسيما من زاوية السلطة وآليات ممارستها، دوراً سلبياً في إستقرار المفهوم وإستقامته على صعيد التطبيق.

 

لذلك، ونتيجة لضمور ثقافة التعاقد في المجال السياسي العربي، جاءت مقومات تحقيق حكم القانون ضعيفة وشاحبة في الدساتير العربية، من قبيل مبدأ فصل السلطات، والمساواة أمام القانون، وعدم رجعية القوانين، كما وردت الضمانات المكرِّسة لحكم القانون محدودةً، وفي أحسن الأحوال عامةً في صياغتها، وسهلةً التفسير والتأويل بما يتعارض مع روح مقاصدها ومراميها.

 

ولعل الأكثر إثارة للإنتباه في البلاد العربية ، من زاوية حظوظ إستقرار وترسخ مفهوم حكم القانون،  المكانة المتواضعة لمؤسسة القضاء، الموسومة، بدرجات مختلفة، بضعف الإستقلالية، ومحدودية النزاهة والشفافية ، والحال أن من متطلبات تحقيق حكم القانون، اكتساب السلطة القضائية كل وسائل المناعة التي تجعلها في منأى عن مكامن الضغط والتأثير والتوجيه والمراقبة..في وضع يسود فيه " قضاء الهواتف"، ويكون القضاة عرضة للضغط، والتهديد، وأحياناً التنكيل، يكون عصياُّ على مفهوم حكم القانون أن يستقر ويتوطن في الثقافة والممارسة.

 

ولعل الأمر ينطبق على قطاعي البرلمان والإعلام . فمن الملاحظ أن المؤسسة التشريعية تعاني  في عموم البلاد العربية من ضعف الصلاحيات المخولة لها في نصوص الدساتير، كما لا تسمح لها معطيات الواقع السياسي والإجتماعي بالذهاب بعيداُ في ممارسة الوظائف المناطة بها في نطاق التمثيلية، من تشريع ومراقبة، ومتابعة تنفيذ السياسات العمومية.

 

ويتجسد ضعف البرلمانات العربية، وصعوبة مساهمتها في إشاعة قيمة حكم القانون، في واقع سير الإنتخابات  المفرِزة لنخبها ، حيث تتحكم في إنتقائها ممارسات بعيدة عن المعايير المأولوفة دوليا من قبيل الشفافية والنزاهة والحرية في التصويت وإبداء الرأي.

 

وبالموازاة، يبدو قطاع الإعلام، على الرغم من المظاهر الكمية البارزة  لوسائطه، عرضةً بدوره لمصادر  الضغط التي تحدُّ من دوره الريادي في تنوير الرأي العام وشحذ وعيه لإدراك ً قيمة حكم القانون وإستراتيجية توطنه في الدولة والمجتمع، ولعل المراتب المتدنية للبلاد العربية في سلم حرية الإعلام والصحافة دولياً، تعطي الدليل على حاجة قطاع الإعلام ، أسوة بقطاعي القضاء والبرلمان، إلى إصلاحات وتغييرات عميقة لجعله قادراُ على المساهمة الفعالة قي تكريس ثقافة حكم القانون..

 

ومن الأهمية بمكان التشديد على الدور المهم الذي لعبته المجتمعات المدنية في أكثر من بلد في العالم في تعبئة الناس وتوعيتهم قصد إدراك حاجتهم جميعاً إلى صيرورة حكم القانون فيصلاُ في علاقة الدولة بالمجتمع، وفي علاقة أفراد المجتمع  فيما بينهم ..

 

إن بناء حكم القانون ، وتوطينه، وجني ثماره في المجال السياسي العربي مسيرة طويلة ومعقدة، وككل سيرورة من هذا النوع والطبيعة، يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الجرأة، والإصرار، والإرادة الجماعية..التي تستلزم أولاً وقبل كل شيء بناء التأييد حول مطلب حكم القانون، وتوسيع دائرة المناصرين له من داخل الدولة والمجتمع  على حدّ سواء.   
   

0
التعليقات (0)