كتاب عربي 21

تحديات أمام الشريعة

محمد عمارة
1300x600
1300x600

عقب حرب أكتوبر عام 1973م/ رمضان 1393هـ، التي استردت فيها الأمة كرامتها القتالية وأخذت بثأرها من هزيمة عام 1967م، بدأ السير على طريق التحول عن نماذج التحديث الغربية إلى النموذج الإسلامي في التقدم والنهوض.

ومن معالم هذا التحول، ما شهده عقد السبعينات في مصر من تقنين للشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها، وهو مشروع كبير شارك فيه علماء الأزهر الشريف وفقهاء القانون، ومجلس الشعب.

ولقد أثمرت هذه الجهود عدة مجلدات تمت فيها تقنينات الفقه الإسلامي، التي تغطي أغلب المنظومة القانونية، كبديل إسلامي لذلك القانون الهجين، الذي بدأ الاستعمار الإنجليزي فرضه على مصر عام 1883م، عقب الاحتلال الإنجليزي لمصر، وكان هذا الإنجاز مؤشرا على عزم مصر العودة لاستئناف حاكمية الشريعة الإسلامية وسيادة فقه معاملاتها من جديد.

لكن هذا التوجه نحو الذات الإسلامية، والعزم على استئناف إسلامية الدولة والقانون والعمران قد أزعج الغرب والمتغربين، الذين هبوا إلى عقد المؤتمرات، وإلى تدبير المؤامرات، وإلى طرح المشاريع الفكرية المناهضة لهذا الاتجاه!.

ففي مايو من عام 1978م عقد المنصرون الأمريكيون – في مدينة كولورادو – أخطر المؤتمرات التي خططت لتنصير المسلمين – كل المسلمين – وطي صفحة الإسلام من الوجود!.

وفي هذا المؤتمر تحدثوا عن الأسباب والملابسات التي حددت توقيت عقده في هذا الوقت بالذات، لقد تحدثوا عن ضرورة المسارعة لمواجهة "المظاهرات التي يقوم بها المسلمون في مصر وإيران وباكستان مطالبة بالرجوع إلى الشريعة" وتحدثوا عن ضرورة "مواجهة الجانب الثوري في الإسلام، الذي نسي المنصرون والغرب وجوده"!.

وعن الصراع الذي استرعى اهتمام وسائل الإعلام العالمية بين الإسلاميين والاتجاهات العلماني، والذي كاد أن يفرض تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، ويدفع باكستان إلى تطبيق الدستور الإسلامي لأول مرة في تاريخها ابتداء من مارس عام 1978م"!.

ولقد كان حديث المنصرين الأمريكيين هذا عن التحولات الإسلامية نحو الشريعة الإسلامية والنموذج الإسلامي في التقدم والنهوض وانزعاجهم من هذه التحولات التي توشك وتؤذن بانعتاق العالم الإسلامي من قبضة الاحتواء الحضاري الغربية، كان هذا الحديث وكان مؤتمر كولورادو إيذانا بموجة معاكسة من التغريب، ومن المشاريع الفكرية العلمانية، التي تسعى لاستبعاد العودة إلى الشريعة الإسلامية، وإلى الإبقاء على القانون الوضعي الغربي، وإلى تفريغ الإسلام من القانون البديل لقانون نابليون!.

ولقد كان المستشار محمد سعيد العشماوي في مقدمة الذين حملوا راية "التوجه العلماني المضاد" لتحول الأمة نحو الشريعة الإسلامية، بل إن الرجل يعترف بأن هذا التحول نحو الإسلام وشريعته هو الذي استنفره للتخصص في التأليف في الفكر الإسلامي، الذي يناهض هذا الاتجاه!.

ثم كان أن اتفق مع الصحفي موسى صبري على نشر كتابه "أصول الشريعة" في سلسلة مقالات في صحيفة الأخبار، منذ يوليو عام 1979م، أي بعد عام من مؤتمر كولورادو بالتمام.

4
التعليقات (4)
اينشتاين
الجمعة، 16-03-2018 10:49 م
التعليق الذي بعثت به يتضمن ( 1 ) و ( 2 ) و ( 3 ) ، نشرتم فقط ( 3 ) ، الترتيب مهم ووجود الثلاثة ضروري لوحدة الموضوع .
اينشتاين ( 3 )
الجمعة، 16-03-2018 08:51 م
وحتى تتضح أهمية عالم الأفكار في حياة الإنسانية، ومدى الحاجة إلى تلازم كل من الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية وضرورة الانسجام بينهما يمكن أن نقرأ ونتأمل ونتدبر ما يلي : " فهناك فئات كثيرة من المسلمين اليوم، تتجاذبها تيارات ومفاهيم متباينة ذاتية مستحضرة أو مسترجعة من ميراثنا الحضاري العام،ومستوردة من التراث الغربي القديم والمعاصر، بحكم تخلفنا الروحي والأخلاقي والعقدي والفكري والعمراني العام... وظهور الغرب علينا في جوانب حضارية واسعة تقدمه التنظيمي والتكنولوجي المدهش."(1). وأيضا : "إن أحداثا جساما تمر في صمت من غير دراسة ولا تحليل دقيق لأسبابها وتمحيصها، لدليل على أن أمراض المسلمين لا تزال تتمتع بحصانة تمنعهم من مواجهتها وهذا الموقف غير الناضج يكون سببا في وقوعنا في أخطاء لم نكن نريدها البتة كأن نتبنى فكر الخوارج دون أن نقصد إلى ذلك ومن غير أن يخطر لنا ذلك ببال. والغموض الذي يحيط بهذه الموضوعات أدى إلى الاختلاط في أذهان قادة الرأي والفكر في ديار الإسلام،مما جعل الأزمة مأساوية وسوف يظهر واضحا للأجيال القادمة ما كنا نعانيه من عجز عن وضع الأمور في مواضعها،وكيف كان يختلط علينا موضوع الدفاع عن العرض والمال الوارد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( من قتل دون ماله فهو شهيد)وبين قوله صلى الله عليه وسلم في موضوع الفتن أن نكسر سيوفنا وأن نكون كخير ابني آدم وأن نلقي ثوبنا على وجوهنا إن خشينا أن يبهرنا شعاع السيف،وما دامت هذه الأمور مختلطة علينا وما دمنا نقف في صمت مطبق من دون أن نسلط شعاع الفكر الذي يزيل الغموض والاختلاط ، فلن نرقب شفاء عاجلا، إن البيان والبينات هو ما تحتاج إليه الأزمة لحلها..إن ما هو صعب الآن سيسهل تجاوزه حين تتناول العقول المتفتحة هذه المشكلات بالبحث والتحليل فنجد الخلاص من عقدنا كأنما نشطنا من عقال ." (2). إن الأفكار الميتة والأفكار القاتلة التي تتوارث بذورها جيلا بعد جيل ، تكاد تلازم الإنسان وتلاحقه في منشطه وفي سكونه ،إلا أن جوهر المشكلة هو عدم الاعتبار ، ولعل مرد ذلك هو عدم القراءة أو الاستئنافية في القراءة ، وذلك هو مصدر الغموض الذي يحيط بموضوعاتنا كلها ويعيدنا إلى البدايات فكأننا لم نقرأ من قبل . إن القراءة هي طريقنا إلى الوعي وهي طريقنا إلى السمع وهي طريقنا إلى الحضور وهي طريقنا إلى الشهادة ، وعدمها أو الإساءة إليها يعيد الأحداث الجسام ويستنسخها . إن البيان والبينات ليس سوى تلك القراءة التي أمرنا بها الله وأهملناها، فلا وعي ولا سمع ولا حضور ولا شهادة ، إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، القراءة هي سبيلنا إلى النجاة وهي سبيلنا إلى الخلاص من عقدنا كأنما نشطنا من عقال . إن الأزمات، إن لم تحل في وقتها ستعطل حركة المجتمع وتزيد من قلقه وآلامه، خصوصا إذا لم نتعامل معها من داخل عقولنا على أساس من البيان والبينات ، قراءة ، وعيا ، سمعا وحضورا وشهادة . إن مثل هذه الأزمات الجاثمة على عقولنا وقلوبنا ، المعطلة لمنشطنا ، يمكن أن تتغذى من بعضها ، فتتوالد وتتركب وتتشابك خيوطها مع خيوط عقدنا ، فيسهل على أقليات السحق والهدم تفعيل الصراعات المصطنعة ( فتنة بعد فتنة ) ، وترتيبها في سلم أولوياتنا ، فيزيد عمر تبعيتنا ونبقى على هامش التاريخ رقما لا قيمة له داخل مجموعة الأرقام الفاعلة ، وكأنني عند هذا الحد اسمع صوتا ينبعث من أعماق أمهاتنا وفلذات أكبادنا تردده حناجر شيوخ ركع ، ترتعش له القلوب وتهتز له الضمائر لعلنا ننهض من غفوتنا ، فنقرأ قراءة حضور واستحضار وسمع وقبول وتواضع وشهادة، فنستمسك ونسلم مقاليد القيادة في هدوء وطمأنينة إلى أهل القوة والأمانة ، تسليم وجوب وتكليف لا انتزاع حق وتشريف ، حتى يهدأ بال الجميع وتنسجم المقومات من جديد فتحدث عملية التركيب بالقدر الذي يعيدنا إلى حلبة التاريخ ، فنؤدي مهامنا وواجباتنا ، فنسعد بين الإنسانية وتسعد هي بنا فنكون بحق أمة وسطا تتحقق شهادتنا وننال أجرنا كاملا غير منقوص . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الطيب برغوث ، الخطاب الإسلامي المعاصر وموقف المسلمين منه ، دار الامتياز ـ وادي الزناتي ـ قالمة ـ الجزائر ، 1988 ، ص 4 . (2) جودت سعيد " مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي ، المطبعة العربية ـ 7 نهج طالبي أحمد ـ غرداية ـ الجزائر ـ 1990 ، ص 11 .
اينشتاين ( 2 )
الجمعة، 16-03-2018 08:49 م
إن مفهوم الحاكمية عند بعض العاجزين تكافىء التسيب والفوضى وتنفي السلوك الحضاري عن المجتمع ، إنه ببساطة ، في نظر هؤلاء ، حتى وإن رفعوا شعار ( لا حكم إلا لله ) قديما وحديثا ، لا معنى لدور العلماء في حياة مجتمعاتهم ، ولا معنى للقبول والتواضع والكفاءة والرضا، إن الحاكمية في نظرهم نفي وإلغاء ، جمود وحسرة ، كل ذلك نتيجة الخلل الرهيب الذي يعانون منه على مستوى الذهنية . إنك إن سألتهم عمن يدير شؤون المجتمع ؟ قالوا : هؤلاء كفار ، وإن سألت : كيف نسير وندير شؤون الجماعة أو المجتمع ؟ قالوا: بالكتاب والسنة، وإن سألت عن الكتاب والسنة؟ لرأيت ووقفت على العجز قائما ممتثلا بين يديك يسمع ويتكلم . إن موقف هؤلاء من مبدأ الشهادة ، لا يختلف عن موقف الذين خرجوا عن طاعة الصحابي الجليل عثمان رضي الله عنه ، ذلك أن إنكار هؤلاء وأولئك العاجزين واقع شعوبهم في نطاق انحراف وتسلط بعض حكامهم ، لا يختلف عن أسلوب الذين أنكروا على الصحابي الجليل مواقفه ، إن قول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه :" إن الله لعله يقمصك قميصا ،فإن أرادك أحد على خلعه ، فلا تخلعه ـ ثلاث مرات ـ " . لا يعني بأي حال من الأحوال ـ كما يدعي البعض ـ تسلطا أو استبدادا باسم الدين ، إنه ببساطة ، كان مطلوبا من الخليفة الثالث للمسلمين وقد ولي عليهم ، الوقوف بحزم أمام الخارجين عن قانون الدولة ، والضرب على أيديهم بقوة ، لأن في طرحهم وسلوكهم خطرا على المجتمع كله ، هذا من جهة خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان، ومن جهة ثانية فإن موقف الخليفة رضي الله عنه أمام خصومه وتبعا لما جاء في خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ليس فيه ما يعبر عن الحكم اللاهوتي في شيء، كما ذهب إلى ذلك كثير من المغرضين، وإنما هو موقف الحاكم القوي الأمين الذي يجب أن يجتهد في إطار شريعة الله قصد الوصول بالمجتمع إلى شط الأمان ، هذا ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله ، كما أن الدرس الذي ينبغي استخلاصه واعتباره حقيقة تاريخية ، اجتماعية وثقافية ، هو أن أي مجتمع إنساني يمكن أن يواجه متاعب من بعض أبنائه أو المنتمين إليه ، خصوصا منهم العاجزين فكريا ، إلى درجة إلحاق الضرر به. والنتيجة أو الحقيقة الثانية هي : أنه ليس لهؤلاء الأبناء أو المنتمين على اختلاف مشاربهم، حق التولية والخلع ، لا لشيء سوى لأن التولية والخلع محكومان ، أو يجب أن يكونا محكومين بضوابط السلوك الحضاري للمجتمع أو الأمة ، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي بأي حال من الأحوال المعارضة أو عملية النصح ، لأن مثل هذا النشاط لا يخرج عن دائرة نشاط الحاكم والمحكوم المؤطر والمنظم في نطاق السلوك الحضاري للمجتمع على سبيل الإلزام ، وما دام الأمر كذلك ، فغير مقبول من الحكام على اختلاف مشاربهم ، تبرير أخطائهم وإخفاقاتهم وانحراف بعض مديري شؤون المجتمع ممن هم تحت إشرافهم ومسؤوليتهم ،بما يصدر عن الخارجين عن الطاعة، ذلك أن مصدر الانحراف ليس هو هؤلاء الخارجين أصلا ، وإنما المصدر هو انحراف الحاكم عن مسار السلوك الحضاري في علاقته بالمحكومين أساسا ، إن مثل هذا الانحراف هو التربة الخصبة التي تنتشر وتترعرع فيها الأفكار الميتة و القاتلة على حد سواء، فيتغذى منها ويتبناها الكثيرون الذين يتحولون إلى أداة هدم ، تستهدف المجتمع ذاته ، مما يستلزم ويقتضي زيادة في معاناة الشعوب وآلامها وقلقها . إن الحاكمية تقتضي من الإنسان ، المؤمن بالدرجة الأولى،عدم مخالفة أوامر الله عز وجل ونواهيه والاهتداء بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم،على أن الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، على مستوى المجتمع والدولة،قصد إيجاد الأجوبة الكافية والشافية لمسائل يمكن أن تكون محل اختلاف،هي مهمة عظيمة وخطيرة،لا يتصدى لها فرد بعينه،أو جماعة بعينها،إنها مهمة مؤسسة يتولاها العلماء على مستوى كل مجتمع،أو أمة، إن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يحوزون عنصري القبول والتواضع،ومن ثمة فهم المؤهلون للرجوع للكتاب والسنة دون غيرهم ضمن دائرة تفاعل عقل الإنسان المنفعل بالتاريخ والواقع والتحديات مع الهدي الأزلي الخالد لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من أجوبة وحلول. إن مثل هذه المهمة العظيمة،لا يقوى عليها الزاعمون وإن زعموا من الغوغاء أمثال من خرجوا عن طاعة سيدنا عثمان وبعده عن طاعة الإمام علي عليهما سلام الله . والحقيقة التاريخية التي لم تسجل هي أن الذين خرجوا وأحرجوا سيدنا عثمان بغير وجه حق تسببوا لأمة التوحيد في كثير من المتاعب والفتن ، وهم الذين أحرجوا الإمام علي ووضعوه في موقف مزلزل أمام خصوم أمة التوحيد ،والدليل على ذلك الفتنة التي ألقت بضلالها على المؤمنين جميعا وكانت مقدمة المقدمات التي مهدت لولادة الاستبداد من رحم الفتنة ذاتها . وإن مثل هؤلاء الذين خرجوا عن مركز دوران أمة التوحيد في وقتها تشكلت لهم صور خلال العصور المتعاقبة ، ونستطيع القول أنهم صنف لا يخلو منه عصر ، والحاكمية منهم براء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب عليهما السلام. لقد استخدموا(الحاكمية)أسوأ استخدام، أفرغوها من مضمونها وقدموها للناس جسدا بلا روح من خلال جهلهم بطبيعة الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان، الأمانة التي تستلزم منه القيام بدور القيادة في هذه الأرض قبولا وتواضعا ، لا استعلاء واستبدادا ، ودورالشهادة في دنيا الناس إيمانا وامتثالا. إن قيمة القيادة تكمن في طبيعة الإنسان الرسالي فهما وممارسة ، الانسان الذي يجمع بين الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية ، سواء في دائرة المهام والواجبات أو في مواجهة المتاعب والتحديات ، مما ينفي تصور مجتمع خال من الانحراف والفساد، إن الإنسان الرسالي مطالب بعملية الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، كمهمة عظيمة وملازمة ، أساسها ومنحاها طبيعة صناعة الإنسان. أما أصحاب النفوس المريضة،الذين لا يخلو منهم عصر،فهم من فصيلة الطفيليات البشرية التي تتغذى من الصراعات المصطنعة داخل هذا المجتمع أو ذاك،إنهم لا ينطلقون من داخل عقولهم بقدر ما ينطلقون من داخل عقول غيرهم . إنني لا أجد ضرورة أو حاجة للإطالة في الحديث عنهم ، خاصة أن سلوكهم يعبر عن الحالة النفسية التي لازمتهم وانعكست عبر الزمن على مناعتهم الروحية والفكرية على حد سواء.
اينشتاين ( 1 )
الجمعة، 16-03-2018 08:46 م
متى نحتكم إلى شريعة الواحد الأحد ؟ حاول الاستعمار لأكثر من قرن وربع القرن، تحويلنا عن عقيدتنا التي لا تضاهيها عقيدة ، لم يتمكن المحتل الغاصب تقديم البديل لأنه كان عاجزا عن إقناع صغارنا الذين كانوا يتلون باسم الله آيات التوحيد في كل آن ، ولما وصل إلى طريق مسدود غادرت عساكره الديار ، واستعاض عن ذلك باستعمار جديد ( الاستعمار بالوكالة ) الذي اعتمد على أنظمة الاستبداد التي خلفها من بعده ، فكما أغفل المسلمون الأوائل مسألة اغتصاب الحكم الراشد باسم الملك العضود حيث استسلموا إلى الأمر الواقع بدعوى طاعة ولي الأمر(طاعة كلية ) والانكفاء بعيدا عن ساحة الحاكم واهتماماته وإدارته ، كذلك راح المسلمون بعد رحيل عساكر المستعمر الغاصب إبان خمسينيات وستينيات القرن العشرين يغطون في نوم عميق ، وكانت الساحة العربية والإسلامية ما يشبه الأرض البكر ، والدليل تجاوب الرعية من قبل مع جهود ثلة من أبناء الأمة المخلصين الذين كان يهمهم فعلا روح أمة التوحيد ورسالتها الربانية ، تجاوب الرأي العام ( البكر ) مع جهود حسن البنا كثيرا ، حتى أثناء وجود المحتل الغاصب ، وحدث مثل ذلك مع جهود جمعية العلماء المسلمين بالجزائر أيام ابن باديس والبشير الإبراهيمي ، وتواصل التلاحم بين تلك الثلة من العلماء المجاهدين في أكثر من بلد مع الشعوب المتعطشة للحرية باسم الله الرحمان الرحيم ، لعب الأزهر والزيتونة والقرويين و... ، دورا فعالا في استنهاض الهمم وإحياء العزائم، ورغم التحول الحاصل في موازين القوى نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي في ظل الحرب الباردة بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة والشرق بزعامة الاتحاد السوفييتي من بعد حربين عالميتين مدمرتين ، و مع ظهور بعض الزعماء العرب الذين رفعوا شعارات متقاربة شكلا ومضمونا تطالب بمجابهة الاستعمار والامبريالية ، وكان من نتائجها حرب أكتوبر 1973 التي لم تدم طويلا ولم يتمكن العرب حفظ وقودها لأكثر من عقد ، وقتها برز إلى الساحة عنصر الحركات الإسلامية المعاصرة ، ومنها على وجه الخصوص : حركة الإخوان المسلمين ذات التنظيم الدولي التي تعتبر الوريث الشرعي للجماعة التي أسسها الشهيد حسن البنا رحمه الله ، وحركات أخرى ذات بعد محلي في المشرق والمغرب ، في هذا الوقت بالذات كان الاهتمام منصبا على الجانب الكمي ( عدد المنتمين ) إلى هذا التنظيم أو ذاك ، فكان الولاء أكثر للجماعة وشعارها على حساب قواعد المجتمع الصلبة مما ساعد على قيام ما يشبه المجتمع داخل المجتمع ، والإنسان داخل الإنسان ، فتأثرت حياة المجتمع وحركته بحياة وحركة تلك الجماعات أو التنظيمات التي كانت تتنافس فيما بينه من أجل الظفر بأكبر عدد من الأعضاء أو المنتمين ، ولاحقا ( زمن الأحزاب السياسية ) بعدد المنخرطين ، فبد أن تكون الصحوة اجتماعية أو مجتمعية ، كانت صحوة متوقفة على حضور ونشاط الجماعة أو التنظيم في جو احتفالي مناسباتي تمجيدي بحت . في هذا الوقت بالذات تمكنت دوائر الاستعمار بالوكالة الاستثمار في ساحة الوسط الجديد فاجتهدت في زرع بذور الصناعات المصطنعة ، ولم يكن يهمها سوى مصالحها ، ولم تغير من نظرتها لشعوب مستعمراتها شيئا ، فالمسلم أو العربي بالنسبة لها هو كيان تنطبق عليه معادلتها التي لم تتغير : المسلم مضروبا في معامل المستعمر يساوي إنسانا مستعمرا ، وفق ما أشار المفكر المسلم مالك بن نبي ، ولم تتغير المعادلة إلى اليوم : المسلم من منظور محتل الأمس الغاصب مضروبا في معامل التبعية يساوي إنسانا تابعا ، والمراد بهذه المعادلة بقاء العالم العربي والإسلامي عالما متخلفا . لقد غابت روح الحكمة عن أغلب التنظيمات الإسلامية حيث دخلت في معارك كلامية مع الحاكم والمجتمع في آن واحد ، واستمر الحال إلى أن تم استدراج الجميع إلى مستنقع البولتيك ، فتعرضت مجتمعاتنا إلى ضربات موجعة ، استطاع الاستعمار بالوكالة تطعيم قواعده بنوعية من الحراس المستبدين . وعلى هذا التحول لم تعد شعوبنا تفهم أدوات اللعبة ، لم يعد الزهر يقدم شيئا بالرغم من احتفاظه بالعدد الهائل من مجلدات التي تزخر بتقنينات الشريعة والفقه الإسلامي ، ولم يعد للأزهر ذلك التأثير المعروف ، وصار شيخه يبارك مسار الفاتيكان في مسعاه إلى توحيد الأديان ( لقاء أستانا ) بغرض تنصير العالم . ورغم طابع ( اليأس ) أو ما يشبه الحيرة والقلق الذي بات يعيشه العالم العربي والإسلامي فقد ثارت الشعوب في أكثر من بلد وأطاحت ببعض مستبديها ، لكن سرعان ما استعادت قواعد الاستعمار أنفاسها لأن القاطرة ( القيادة الراشدة ) لم تكن حاضرة ، ببساطة لأن الصحوة لم تكن مجتمعية بقدر ما كانت شعاراتية ومناسباتية احتفالية . الاستثناء هو الحالة التونسية التي تعتبر تجربة متميزة إلى حد بعيد ، ولكنها تبقى محدودة بحدود تونس وتحدياتها . وبخصوص سؤال الحاكمية فإن المجتمع الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم رفقة أصحابه وكثير من الناس من حوله ، لم يخرج الإنسان فيه عن شريعة الله ، مجتمع استجابت مؤسساته لحاجات الإنسان بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه ولونه ، حرروه من دائرة اللاهوت المزيف ، أين كان الإنسان مسلوب الحرية والكرامة وممنوعا في كثير من الأحيان من التفكير ، لا فرق بينه وبين باقي الأحياء من غير الآدميين ، إلى دائرة العدل والأمن والأمان ، مجتمع يدير الشأن العام فيه أهل القدرة والكفاءة والتواضع والقبول بمفهومها الشامل والسليم ، على أساس أن تلك المهام واجب وتكليف أكثر منه حق وتشريف ، ذابت في نطاقها فوارق اللون والعرق واللسان وما تلاها من اعتبارات ، شملهم ووسعهم كيان مجتمعي واحد ، ولم يكن ذلك الكيان دينا منزلا ، أو نموذجا صلبا ثابتا ، خصوصا أن المجتمع يضعف ويقوى ، ويمكن أن يسري في حقه وعليه ما لا يسري على الدين ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن المجتمع أو الدولة من صنع الإنسان وفق ما يعتقده ، وما استحفظ عليه من أمانة وكلف به من رسالة ، في وقت أبت فيه الأرض والجبال والسماوات ذلك ، كيان أو دولة تناسب المجتمع الإنساني ولا تتعارض مع ما جاءت به الكتب السماوية وآخرها القرآن الكريم ، إن المجتمع في إطار هذا الكيان أو هذه الدولة ، لا وزن فيه أمام القانون ، لعامل الدين ،بمعنى دين أو معتقد الإنسان المواطن أو الرعية، لأن القانون نفسه لم يكن ليتعارض مع الدين ، مما يستلزم ويقتضي المساواة بين الجميع ، يهودا ، مسيحيين ، مسلمين ، وغيرهم ، كما أنه لا وزن فيه لعامل اللغة أو اللون أو الجنس ، إن القاضي ، في إطار هذه الدولة ، لا ينظر إلى المدعي أو المدعى عليه على أساس دينه أو لونه أو جنسه أو لغته أو جاهه أو نسبه ، إن المجتمع في إطار هذه الدولة مجتمع حر ، على أساس أن حريته مكفولة قانونا من قبل جميع أعضائه ، ذلك أنه لو تصورنا الحرية مطلقة لما تحققت هذه الكفالة ، ومن ثمة فالحرية محكومة بضوابط ، مصدرها عالم المجتمع الثقافي وعمقه الحضاري ، على عكس ما يذهب إليه الفكر الغربي أو الفكر الشيوعي ، وقبل ذلك وبعده الفلسفة اليهودية الماكرة . إن مجتمعا كهذا في دولة كهذه ، لا مجال فيه للتسلط و لا للتطرف ، ولا للاستبداد و لا للإباحية ، لذلك السبب لم تطرح فيه الحاكمية كمشكلة ، إن على المستوى المفاهيمي وإن على مستوى الممارسات .