مقالات مختارة

مصر الجديدة جمهورية الخوف

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

موجة جارفة من القنوط تلك التي جرفت قطاعات واسعة من الناس في مصر وسائر بلدان المشرق العربي، خاصة تلك التي جرفتها من قبل موجة التغيير الثوري، والناس في ذلك معذورون، فنتيجة عوامل عديدة متداخلة ومتضافرة، ليس هنا مجال تناولها بالتحليل المتعمق، نجحت الأنظمة في أغلب تلك الدول في امتصاص الصدمة بصورةٍ أو بأخرى، مستفيدين من عوامل وكوامن الضعف والتشرذم وانعدام التنظيم والقيادة المستعدة فكريا وعمليا لركوب وتطويع التغيير الثوري، ناهيك عن التمهيد له. 
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، إذ إن هؤلاء الناس وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف، بعد مدّ وجزر وصخب وطوفان من الكلام وانفلات أمني، أفقر وأسوأ حالا، وبات ما تذمروا منه بالأمس يبدو فردوسا مفقودا؛ بل قد يشاهدون صعود نماذج أصغر سنا وأكثر بطشا وقسوة ممن أُطيح بهم، ولعل أقرب مثال على ذلك هو السيسي.


لذا فليس من عجب إن ترسخت لديهم قناعة بلا جدوى المقاومة ضمن جملة من الأفكار العدمية، التي روج لها مطبلا كتبة النظام وأبواقه، فالانعتاق والتحرر (وفقا لتلك الرؤية) وهم، سراب، قد تلاحقه طيلة عمرك فتهلك نفسك ومحيطك دون أن تصل إليه، ووفقا لهذا التصور ومدّا للخط على استقامته، فالراهن هو الممكن لأنه واقع ومتاح، أيا كان قبحه، وأوجه قصوره، حتى إن بلغ من الرداءة والتردي أعماقا وقيعانا لا يلبي معها أبسط الاحتياجات، لسبب بسيط، أن التغيير مستحيل، فإما القبول والرضوخ، أو التدمير الشامل، تلك السبيل أو المعادلة التي دشنها ورسخها بشار الأسد وزمرة مجرميه وداعميه.


وأمام ذلك فليس أمام هؤلاء الناس سوى الهروب، وله نماذج عديدة سأتطرق لها لاحقا، لكن الثابت والأكيد، شئنا أم أبينا، أن الغالبية اختارت أو قبلت تحت الضغط بالتعامل مع الوضع الراهن، ورسوخ النظام في قلبه كالممكن الوحيد، لاسيما وأن العالم بأسره يشهد صعودا لليمين والشعبوية، وعمالقة كبار يتزايد دورهم ورقعة نفوذهم، بينما لا تعني لهم الديمقراطية وحقوق الإنسان الكثير.


يوما ما أعربت كأصدقاء كثيرين عن خوفي من تحول الدولة في مصر إلى نظام شبيه بالنظام التركي، حيث كانت تقليديا الكلمة الأخيرة والفاصلة للمؤسسة العسكرية، إلا أن أحدا اعترض بأن تركيا حلمٌ لن نصل إليه أيضا، وأننا على الأغلب لاحقون بباكستان، حيث الجيش كل شيء، بالمعنى الحرفي، فلا يمر شيء دون موافقته وامتلاء خزائنه.. كم كان محقا.


ولعلني هنا يتحتم عليّ أن أستدرك موضحا ما كتبته من قبل حين قلت، إن هذا النظام (والسيسي على رأسه) فاقد الرؤية، فالرجل لديه تصورات غائمة عما يريد، لكنه لا يعرف سوى ذلك. هو يريد ترميم جهاز الدولة والسيطرة الأمنية تماما، منحازا لرأس المال، ولا يرى قوة ولا حزبا سوى الجيش بأذرعه الاستخباراتية الذي يتمدد ليصبح عصب الاقتصاد والأمن والسياسة.. إن الثورة المضادة ليل وظلام، سيشمل بظله كل مناحي الحياة. السيسي بالفعل يعمل على تغيير وجه البلد، خالقا مصر جديدة ذات وجه جديد؛ سيغير الناس والفضاء. مصر السيسي جمهورية خوف، تذكرنا بالعصر المملوكي.


في مصر الجديدة التي يبنيها السيسي، الناس مرهقون، خائفون من التفكير في التغيير، خائفون من الكلام ومن التذمر علنا. يكتشفون أن الأرض التي ضحوا وأباؤهم من أجلها لم تكن لهم وإنما «معارة» من دولة أخرى. في مصر الجديدة إما ننجح بفضل سياسة الرئيس الرشيدة، وإما نفشل نتيجة المؤامرات، ونحن محاطون بها.

 

في مصر الجديدة يتخلق واقع مواز، نصدقه ونتحمس له، ونصفق لانتصاراتنا، لأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي وجهاز الكفتة، ولما يتكشف هزال الكذبة وسخفها، نشعر بالخجل، ثم ننسى، فالتذكر يؤلم ولا يغير شيئا، وعلى ذلك فنحن في مصر الجديدة نتأرجح بين حالق الحماس والبهجة والفخر بانتصارات وهمية، لنرتطم بقاع الخجل لدى الإخفاق، ثم ننسى. في مصر الجديدة، مصر السيسي، نندد بالمؤامرة الصهيو- أمريكية ونحتفل بانتصارنا عليها، ثم نصفق أيضا للتنسيق غير المسبوق مع الدولتين. نحتفل باكتشافات غاز ونفط جديدة، ثم نجد أنفسنا أفقر، وبعد بضع سنين سنجد أنفسنا نشتري الغاز أو نتسوله مخفضا من السعودية، ربما مقابل قطعة أرض جديدة سنكتشف أنها كانت ملكا لها في العصور الجيولوجية السحيقة.


في مصر الجديدة التي يبنيها السيسي حثيثا، ستغلق كل المساحات (حتى مجرد الكلام الذي لم ير فيه مبارك أكثر من «طق حنك» وتغاضى عنه متعاليا مزدريا حين علق «خليهم يتسلوا»)، فكل فرجة قد تفتح بابا أو متنفسا، أو لا سمح الله مساحة قد تستغل ضد النظام، فهي كالبدعة تماما، ضلالة ومنزلق، تماما كما هي تلك البدعة الإفرنجية بالفصل بين السلطات، ففي مصر السيسي الجديدة سيدمج التشريع بالتنفيذ وبالقضاء، وستختزل جميعا في شخص الرئيس، فهو الدولة والدولة هو، والدولة هي كل شيء، فهو ظل الله على الأرض، يدعمه بالرؤى، حيث السيوف والساعات الغالية. لذا فالمعارضون عينة عشوائية منقرضة، ولأن الظرف الموضوعي والاجتماعي سيفرزهم، فسيُشيطنون ويتم التركيز على تهديدهم للمجتمع وسِلمِه وما العراق وسوريا ببعيد، وسيغيبون في السجون، إما اعتقالا قيد التحقيق أو بالقانون، فما أكثر التهم وأسهل الأضابير.

 

في مصر الجديدة الدم رخيص، فتهمة الإرهاب سهلة قريبة مطواعة، وما أسهل «تصفية العناصر» المشتبه فيها، بلا تحقيق، قبل أو بعد، فالتهمة والشك دليل كاف.

 

في مصر الجديدة ستفرغ المعاني القديمة وستذوب الثوابت وفقا لمصلحة النظام، وستبرز معان وقيم جديدة، إلا أنها ما ستلبث إلا ويصيبها الصدأ، تماما كالتحالفات التي سيغيرها كالجوارب القديمة الممزقة.


في مصر الجديدة عاصمة جديدة، سيبنيها النظام لكي يبتعد بوزاراته السيادية ومراكز قيادة أدوات بطشه عن الجمهور تفصله عنهم قوات وجدران، فقد استبطن فكر الحيطان والجدر العازلة من إسرائيل وغيرها من تكوينات رأس المال الاستعماري الأكثر فاشية وشراسة، ولا غرو في ذلك فهو على يمين أقصى اليمين، في كل شيء، ولتترك القاهرة الزاهرة المجيدة، مدينة السحر والأحلام لتتعفن بطبقاتها الشعبية، وكل من تضيق يده عن اللحاق بجنة السيسي. في مصر الجديدة لن يمر شيء إلا عبر الجيش وبمشاركته، وسيتم خلط النمو بالتنمية، وستقام مشاريع كبيرة تصرف فيها الأموال لنكتشف بعد الفشل والإفلاس أن الغرض منها كان رفع المعنويات وتعضيد الحالة النفسية، ولكي نغطي العجز سيطالب الفقراء والمتقاعدون وكل ذوي الدخول الثابتة والمحدودة بشد الحزام أكثر، لكي يسددوا الفاتورة، تلك التي لم يتشببوا فيها ولم يكونوا ليستفيدوا منها.


في مصر الجديدة المخبرون وأبواق النظام في مأزق، فقد يقولون ما يتصورون أنه مُرْضٍ للنظام ليفاجأوا بأنه أغضب أحد أذرعه، وسيقضون وقتهم كمن يمشي على الحبل، يخمنون ما عساه يرضي هذا الطرف ولا يغضب ذاك في منظومة الأمن.


في مصر الجديدة النظام هو بطل تجديد الخطاب الديني، لكنه يستمد التأييد من السلفيين وينسق معهم. وفي كل ذلك، ليس لنا إلا أن نصفق، فقط. 


الثورة المضادة ليلٌ وظلام 


لوهلةٍ، جاهدت لأجد بضع كلمات متفائلة أختتم بها، ربما لعادة متأصلة أو طبع يحملني على محاولة الإرضاء أو بث الأمل، إلا أنني سرعان ما أدركت أن أي كلام من ذلك النوع لن يعدو أن يكون رصا لمفردات، بلا معنى أو روح. كل ما أستطيع أن أقوله إن تلك الدولة أو التركيبة، على كآبتها وبؤسها وبطشها، لم تمنع أنظمة مشابهة من السقوط تحت وطأة فشلها الاقتصادي- الاجتماعي وغالبا العسكري، ناهيك عن صراعاتها الداخلية. من هنا تبرز أهمية محاولة نشر الوعي والتنظيم، رغم الظروف المناوئة شديدة القسوة التي أقر بها وبفداحة وطأتها، فتلك هي السبيل الوحيد لتفادي تكرار انكسار الثورة، وربما تقصير أمد تلك الحقبة البليدة.

القدس العربي
0
التعليقات (0)