قضايا وآراء

التوكاتسو والأمية.. ماذا فعلنا بك يا وطن؟

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

الاخبار الواردة من مصر تقول أن وزير التربية والتعليم يزور اليابان على رأس وفد كبير من الوزارة، (السبت24/2) لتفقد مدارس رياض الأطفال والابتدائي للاطلاع على تطبيق أنشطة التوكاتسو (التوسع في الأنشطة بدلا من المناهج، وإلغاء كل ما من شأنه الحفظ والتلقين، واستبداله بمهارات الإبداع والتفكير) وكيفية مساهمتها في بناء شخصية المواطن الياباني.

عام 1862(وقت حكم سعيد باشا) قررت اليابان إرسال بعثة الساموراي الشهيرة إلى مصر للوقوف على أسباب نهضتها، البعثة ذهلت من التقدم غير العادي في مصر (السكك الحديد، الحمامات العامة، المدارس.. الخ). وعندما اعتلى الإمبراطور الياباني ميجي الحكم سنة 1867، نظرت حكومته إلى مصر آنذاك على أنها نموذج يحتذى به، وخبرة لا بد لليابان أن تدرسها وتستفيد منها. 256 سنة هي الفارق بين الزيارتين خاضت فيها اليابان حروبا كثيرة، وتعرضت خلالها للقصف النووى الذي أودى بحياة ربع مليون من مواطنيها.

من هو ميجي؟ وما هو الأثر الذي تركه في بلاده إلى هذا الحد؟

ميجي هو إمبراطور اليابان الذي بدأ الإصلاح العظيم (1867-1912م) في بلاده، والذي يُرجع كثير من الباحثين قوة اليابان اليوم إلى العمق التاريخي لهذه الفترة، والتي تسمى "فترة ميجي"، رغم الحروب الكثيرة التي خاضها ولم تكن حروبا عادية، ورغم الفقر الشديد في الموارد ولم يكن فقرا عاديا. يقولون إن فترة التأسيس الصلب التي بدأها الإمبراطور ميجى اختزلت قرون التخلف بين اليابان وبين الغرب؛ من قرون إلى بضعة عقود، وكانت تأسيسا تعليميا ودستوريا وثقافيا وتشريعيا واقتصاديا شاملا، تحقق بفعل الدور الهام لما عرف بـ"توافق الرأي" كدعامة للسلطة وحركة المجتمع والوعي الوطني واختيار الأولويات.

فكرة الحكم القائم على توافق الآراء كانت مركزية وأساسية، خاصة أن الدولة المركزية كانت غائبة قبل مجيء الإمبراطور ميجي.

وكان التفاهمات والتسويات مع طبقة الأشراف الحاكمة وقتها من أهم خطوات تكوين الدولة المركزية ووجود نظام حكم شديد التطور قابل للمناقشة وتسوية الخلافات، وبناء توافق الرأي والمسؤولية المشتركة، ووضع الإطار الدستوري والقانوني والإداري والاقتصادي الجديد، وما يمثله من ضمانة لاستمرار حركة الدفع بالاتجاه السليم لتحقيق الأهداف الكبرى وعدم خروجها عن مسارات تطورها.

بعد تعميق فكرة الدولة القوية المركزية انتقل الرجل إلى فلسفة التعليم الشامل، كركيزة انطلاق للنهضة وتنمية الإنسان وتهيئته لتحمل مسؤولياته، وتوحيد القيم والرؤى والنظر إلى الذات والتاريخ والعالم من حوله؛ وإلى المستقبل الرائع الذي آن أوان مجيئه، يصفون فكرة التعليم الذي بدأه الرجل بأنها كانت قائمة على الحفاظ على الهوية القومية، وجذب الشعب إلى التيار الرئيسي للحياة الوطنية وتوحيد رؤية الأمة.. لم يكن تعليما معرفيا فقط، بل كان أيضا تعليم الناس "الفضائل المدنية"، وغرس عادات الكد والجهد والإيقاظ الدائم للوعي والحفاظ على فكرة التعلم المستمر.

سيكون هاما هنا أن نعرف بأن تجربة محمد علي (التي تم حصارها وخنقها في عام 1840) جاءت بعدها فرصة هائلة للنهوض، وأعني فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والتي كانت من أكثر الأوقات ملاءمة للنهوض بالوطن إلى مصافي البلدان الكبرى؛ في حالة لو كان عبد الناصر اعتبر من تجربة النهوض التي تمت على يد الإمبراطور ميجى واستمر في خط النهوض الذي بدأه محمد علي.

إصلاحات اليابان الكبرى انكسر خط صعودها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ما لبث خط الصعود أن واصل صعوده حتى تحققت يابان اليوم، في حين أن الرئيس ناصر لم يتسلم بلدا مهزوما مستسلما بإعلان استسلام عالمي، بل تسلم بلدا كان رائدا في محيطه يمتلك كل مؤسسات الدولة القوية بأجهزتها وأبنيتها التشريعية والتنفيذية.. فشل عبد الناصر فشلا مزريا في التقاط الفرصة التاريخية الثانية لمواصلة خط الصعود الذي بدأه محمد علي، وهو الخط الذي توقف (لم ينكسر)، وكانت فرصة الخمسينيات والستينيات التي أضاعها "أبو الهزائم" في حروب الميكروفونات والمغامرات الطائشة.

ومن زمن يلح عليّ سؤال محير وعبثا لم أجد له إجابة، وهو لماذا لم يقم عبد الناصر بـ"مشروع قومي" لمحو الأمية قبل أن يقرر مجانية التعليم الجامعي مثلا؟ نعلم أن مجانية التعليم ما قبل الجامعي تقررت سنة 1950 م قبل حركة تموز/ يوليو في عهد حكومة الوفد، وكان وزير المعارف وقتها الدكتور طه حسين، وكانت مظلة التعليم الشامل آخذة في الاتساع بالتطور الطبيعي للواقع الاجتماعي، وكان المتفوق والثري هم فقط من يكملون تعليمهم الجامعي، الأول تنفق عليه الدولة إكراما لتفوقه واستثمارا لمستقبل الوطن، والثاني ينفق عليه أهله، إلى أن جاء الرئيس عبد الناصر وقرر مجانية التعليم الجامعي؛ مخالفا نصائح كل خبراء التعليم، فليس هناك في الدنيا هذه الجيوش الحافلة من حاملي الشهادات الجامعية، وكان الأجدى إنفاق تكاليفه في محو ذلك العار الحضاري (الأمية)، لكن الرجل كان يريد شعبا أميا جاهلا، فمحو أمية الشعب طريقه الأسرع نحو المعرفة والمعرفة قوة، والقوة تعني الوعي بالحق والواجب، وفلسفة الحكم في هذه الفترة الضائعة لم تكن لتحتمل شعبا بهذه الخصائص.


ما جذبني إلى الحديث عن نهضة اليابان، وهو أننا دائما ما نتذكر ونقول في حسرة أن نهضة مصر الحديثة التي بدأها محمد على بدأت قبل نهضة اليابان، وأين نحن وأين هم؟

تجربة الإمبراطور ميجي في الحكم القائم على "توافق الآراء" و"التعليم الشامل المستمر" جديرة بالاحتذاء لا المحاكاة، فلكل بلد ظروفه ومجاله. أعلم أن الأولى دونها مصاعب كثيرة أدناها غياب النخبة السياسية وأيسرها غياب الناس العاديين عن "التيار الرئيسي للحياة الوطنية". أما الثانية (التعليم الشامل المستمر) فيجب أن نبدأ فيه من أمس لا اليوم - كما يقولون - خاصة ذلك العار المشؤوم (الأمية). فما عاد مقبولا من حكم صالح رشيد أن يتأخر ساعة واحدة في تدشين ذلك المشروع القومي الأعظم على الإطلاق.. مصر السابع عالميا في قائمة أسوأ عشر دول في نسبة الأمية. في أربعينيات القرن الماضي كان لدينا علماء يتراسلون مع آينشتين حول "نظرية النسبية".. كيف يكون لدينا اليوم عشرون مليون أمي؟

وأخيرا، علينا أن نعرف أن نهضة اليابان كانت تسير، وما غابت عنها روح اليابان وثقافة اليابان وقيم اليابان، بل كانت زاد وزواد النهضة ووقودها الدائم.

التعليقات (0)