مقالات مختارة

الإسلاميون… المشكل والحل

جلال الورغي
1300x600
1300x600

دفعت التحولات في منطقتنا العربية منذ 7 سنوات بالتيار الإسلامي إلى الواجهة، قوة سياسية واجتماعية فاعلة. بعد أن أُجبر لعقود على الاكتفاء بالتحرك في الهوامش أو في مواجهات فرضت عليه لتحجيمه أو لدفعه خارج المشهد السياسي «الرسمي».


المفارقة أنه بقدر ما أفرزت صناديق الاقتراع العربية، تقدما للإسلاميين، بما يؤكد الشعبية الواسعة التي يحظون بها، وبما يعزز فكرة أنهم جزء أساسي من النسيج المجتمعي في أي بلد عربي، بالقدر ذاته ارتفعت أصوات في هذه البلدان متحفظة على صعود الإسلاميين، بين من يعترض عليهم جملة، وبين من يقبل بهم في إطار متحكم فيه. 


ولقد أفرز هذا الوضع الإشكالي للإسلاميين وللموقف منهم حالة عربية مشلولة. 


ساهم الموقف السلبي من الإسلاميين وطبيعة العلاقة التي رُسمت بينهم وبين بقية القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في الربيع العربي، مساهمة حاسمة في إرباك فرص الانتقال الديمقراطي، وفي تقويض الأسس المشتركة بين قوى، كان يُنظر إليها باعتبارها القوى الجديدة التي ستقود الانتقال وتؤسس لعهد جديد يقطع مع الاستبداد والدكتاتورية. وكان الأمل كبيرا في ذلك، لا سيما وأنهم كانوا جميعا ضحايا النظام القديم، ومعا قاوموه لسنوات طويلة. بيد أن البعض استعاد الصراع الأيديولوجي ليكرس اصطفافات على أساسه. وعلى هذا الأساس أنبنت تحالفات سياسية و«جبهات إنقاذ». تحالفات واصطفافات تمحورت جلها بمعزل عن الإسلاميين، أو لمجابهتهم، وحرصت على «عزلهم».

 

بينما استهان الإسلاميون بمخاوف شركائهم المختلفين، وزهدوا في طمأنتهم، ولم يبذلوا الجهد السياسي والفكري والتواصلي للانفتاح على «المتخوفين» وإقناعهم بأن التيار الإسلامي جزء من المشهد السياسي وليس كله، وأنهم عامل من عوامل التحول وليس التحول كله، وأنهم بعض من حركة التغيير وليسوا مستولين على التغيير، وأنهم شريك في البناء والتنمية، بعيدا عن الإقصاء. بدت «لحظة الربيع» كلحظة تاريخية غير تقليدية وفريدة لحظة ضاغطة اندفع فيها الإسلاميون باتجاه الانشغال بالحكم وتحدياته. فإذا بالتجربة منذ بداياتها رغم حيويتها وفرادتها انقسامية، انحسر عنها الإجماع والتوافق، وتجمّع حولها المتربصون، لا سيما وأن صفوفهم تعززت بقوى النظام القديم، التي اُستدعيت لترجيح الكفة في إطار التدافع بين قوى الثورة بدءا. التقطت تلك «القوى القديمة» لاحقا اللحظة لتتصدر قيادة «المعارضة» في جبهة عملت بفعالية على إرباك الانتقال في مراحله الأولى، ولتنتهي بإسقاط تجربة الانتقال التي كان يقودها الإسلاميون وشركاؤهم.


أشاع الانقسام بسبب وضع الإسلاميين والموقف منهم حالة من الإحباط وخيبة الأمل في التغيير. وأُصيب الشباب ـ القوة الأكثر فاعلية في حراك الانتفاضات والتغيير- بشعور من المرارة وانتابهم شك في المستقبل. وضع ساد بقوة والشباب يتابع المعارك الأيديولوجية الطاحنة، والانقسام الحاد والمعارك التي حوّلت ضحايا الاستبداد، ورفاق النضال في مقاومته بالأمس، إلى أعداء يتمترسون في خنادقهم لمواجهة بعضهم البعض. وبدت حالة من الانفصام المجتمعية واضحة. بين قوة انتخابية معتبرة وراجحة تعطي نسبة مقدرة من أصواتها للإسلاميين، وتختارهم للمساهمة في الخطوط الأمامية لإدارة شأن بلدانهم، وبين قوى أخرى تصوّرهم خطرا على المجتمع والدولة و«المنوال المجتمعي» وتحرّض عليهم بدون هوادة.

 

واللافت أن هذا الوضع الانقسامي وإن اختلف في ظاهره عن منظومة ما قبل الربيع العربي، التي كانت فيها الأنظمة تبرر مصادرة الديمقراطية بعدم جاهزية المجتمع لها ولممارستها، فإنه تطابق معها جوهريا عندما قيل للشعب تصريحا أو تلميحا بعد الثورة، لمجرد أنه اختار الإسلاميين، أنك لم تحسن الاختيار، وقد اخترت قوى سياسية تمثّل خطرا عليك وعلى البلاد. خطاب اعترض في محصلته على نتائج انتخابات رغم كونها حرة ونزيهة، بل كانت حلما لكل مقاوم للاستبداد ومدافع عن الديمقراطية. كان ذلك مدخلا لإرباك المسار الديمقراطي والانقلاب عليه (مصر) أو الالتفاف عليه (تونس) أو منعه جملة (ليبيا واليمن وسوريا)، وحتى المغرب ليست بمنأى عن هذا التوجه القائم على التحجيم والاحتواء. فهذه الاشكالية التي تؤطر الموقف من الإسلاميين بصدد تبديد الجهود والطاقات وتفويت الفرص لمشاركة الجميع في عملية البناء والتنمية في ظل تحديات وصعوبات لا تتحمل التلهي بإقصاء هذا الطرف أو ذاك.


سبع سنوات على انطلاق الانتفاضات العربية، أكدت أن الاجتماع السياسي، الذي تعايشت فيه جميع الأطراف المجتمعية، ووقع التعامل فيه مع القوى الإسلامية كجزء أصيل من النسيج المجتمعي والسياسي العربي، اجتماع سياسي قادر على التماسك، تحصّنا من الاحتراب الأهلي، والإرهاب، ومن انهيار العقد الاجتماعي، بل تعزز السلم الأهلي والتضامن المجتمعي، كلما انبسطت الحرية، واستقام الجميع على قيم التعايش. وعلى خلاف انزلقت التجارب السياسية التي أُقصي منها وفيها الإسلاميون إلى أوضاع أقل ما يقال فيها أنها فاشلة.

 

تجارب تدحرج بعضها أبعد من الفشل. إلى الاحتراب الأهلي، والعنف الأعمى، والإرهاب المدمر. وتبدو مصر اليوم بتجربتها المعلومة في التعاطي مع الإسلاميين في حالة ضعف غير مسبوقة، انكفأت على نفسها. وتبدو التجارب الأخرى في سوريا واليمن وليبيا، على الاختلافات بينها واضحة في تأكيد أنه كلما كانت التجربة توافقية تصالحية بين مختلف مكونات المجتمع واعترفت للجميع بالحق في المساهمة في بناء تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية تشاركية تقوم على الحكم الرشيد، كلما نجحنا في تجفيف ينابيع التشدد والإرهاب والعنف.


تثبت التجارب السائدة بصيغتيها التشاركية التوافقية والإقصائية الاستئصالية بأن التيار الإسلامي الأساسي يمثل جزءا من الحل وليس من المشكل. ليس فقط لأنه جزء أساسي أفرزه المجتمع كما أفرز بقية القوى الاجتماعية الأصيلة، وقدمه اليوم كما قدم في حقب تاريخية أخرى التيار القومي ثم التيار اليساري، وإنما أيضا لأن السعي لإقصائه يقوّض السلم الأهلي، والوئام المجتمعي، ويخلق بيئة غير متسامحة محتقنة ومتوترة، تمثل الأرضية والمناخ المناسب للفكر المتشدد الذي ينعكس جماعات عنفية منظمة، بعضها إجرامي، وبعضها إرهابي، وفي صيغتيها تهديد للمجتمع والبلد وأمنه واستقراره. وبين سياسة تشاركية ومنوال سياسي يستوعب الجميع منتظما بمختلف تياراته، باتجاه البناء والتنمية والنهضة الجماعية، ومنوال استئصالي يدفع بقوى مجتمعية خارج العملية السياسية والمنتظم السياسي، إشاعة لمناخات العنف والاحتراب والإرهاب، على المجتمع وقواه الحية أن يختار بين المنوالين. 


ينتظر من الإسلاميين اليوم أن يساهموا بشكل فعال في العمل على تفكيك الكثير من القضايا وحسم القول فيها، بيانا فكريا، ووضوحا سياسيا، وممارسة ديمقراطية. كما يتوقع منهم باعتبارهم القوة المجتمعية الأكثر انتشارا وتوسعا في هذه الحقبة من تاريخ العرب أن يبددوا مخاوف الآخرين، مطامنة اجتماعية، وانفتاحا سياسيا، وتشاركية حقيقية في الحكم والبناء، وأنسنة لمقارباتهم، باستثمار الثقافة الإسلامية، محفزا لفاعلية الفرد والمجموعة الوطنية، ومزيد النأي بالإسلام عن الصراعات الحزبية أو الصراع حوله. ومن حيث أنهم القوة الحيوية الأوسع فمطلوب منهم التجدد ومزيد التفاعل مع تعقيدات المشهد الوطني والاقليمي والعربي والدولي، وحسن التعاطي معه، علاقات وإدارة مصالح وحماية للسيادة الوطنية والقومية.

 

ويطالب الإسلاميون بهذا باعتبارهم قوة حيوية لا تزال مرشحة للعب أدوار متقدمة في الساحة العربية. كما أن تطورهم في إطار ديناميكية ذاتية، معطوفة على ديناميكية تفاعلية مع الآخر، تعبر على أنهم لا يزالون قوة غير مستهلَكة بل تستمر فاعلة. بيد أنه بالقدر نفسه مطلوب من القوى الأخرى، شريكة المشروع الوطني أن تتطور باتجاه ثقافة أكثر تشاركية وأقل حزبية، في سياق ديناميكية متحركة تقوم على الاحتواء والاندماج. 


تواجه المنطقة العربية مخاطر غير مسبوقة من الانقسام والتفكك، معطوفة على تمدد قوى دولية، حوّل المنطقة إلى ميدان للصراع بالوكالة. صراع دام ومدمر يعبّر عن نفسه بشكل واضح في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، وفي بلدان عربية أخرى بآليات وأدوات متعددة، تتنوع حسب البلد والخصوصية. ويمكن أن يلعب الإسلاميون دورا حيويا في المساهمة في ترميم الكثير من التصدعات وتخفيف الانقسامات والمساعدة على تعزيز الوحدة الوطنية بشكل جدي في اليمن وليبيا والعراق والبحرين، بل والمساعدة على تحصين الأمن القومي.

 

ويقتضي هذا الاستحقاق التعامل مع الإسلاميين كعامل لحمة وطنية وحماية سيادية ومناعة قومية في مواجهة الأطماع الإقليمية والدولية. ويستوجب ذلك فتح مسالك للتصارح معهم مدخلا للتصالح، واستيعابهم قوة مجتمعية حيوية، وعامل تحفيز وطني مع شركائهم في المجتمع والوطن. مجتمع أكثر تصالحا مع نفسه وبين قواه المتعددة، ضمانة لوحدة داخلية، تبدو اليوم مطلوبة وملحة في ظل استهداف المنطقة وبلدانها بمزيد من التقسيم والتفكيك.

 

القدس العربي
0
التعليقات (0)