كتاب عربي 21

مجتمعاتنا تحتاج ليبرالية إسلامية

سمية الغنوشي
1300x600
1300x600

ربما تكون كلمة ليبرالية قد اكتسبت معنى سلبيا في الثقافة العربية الإسلامية لاعتبارات كثيرة، بعضها يتعلق بالماضي القريب وبعضها الآخر يتعلق بالحاضر الراهن.


فقد اقترنت الليبراليات السياسية في العالم العربي بحكم الملكيات التقليدية طليعة القرن الماضي، حيث كان الملوك والأمراء "الليبراليون" مجرد أدوات طيعة بيد المستعمرين الإنجليز والفرنسيين، وكانت الأحزاب السياسية تغرق في صراعاتها ومؤامراتها الصغيرة، بعيدا عن الشعب المثقل بآفات الفقر والجهل والمرض.


ولذلك تم طَي صفحة هذه الحقبة الليبرالية في العالم العربي، في إطار موجة من الانقلابات العسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي في مصر وسوريا والعراق، في إطار من المد الوطني والقومي ذي النفس الاشتراكي.


فقد اقترن اسم ملوك الخديوية من أبناء وأحفاد محمد علي باشا في مصر بقدر كبير من التقلبات السياسية والارتهان للإنجليز والتنكر لمطالب الشعب، رغم أن مساحة الحريات التي كانت متاحة فيها أوسع بكثير مما أتاحه العساكر الذين جاؤوا من بعدهم. 


أما الليبراليات الراهنة، أو بالأحرى أشباه الليبراليات، فقد ارتبط اسمها ببعض الكتاب والمثقفين والسياسيين الذين يوصفون تجاوزا بكونهم ليبراليين، ممن سخروا أقلامهم وألسنتهم لتجميل أنظمة حكم لا تتوفر على الحد الأدنى الليبرالي، وينحدر عدد كبير من هؤلاء من عائلات أيديولوجية يسارية، ولكنهم خيروا تغيير مواقعهم الأيديولوجية مائة وثمانين درجة، بعد سقوط المنظومة الشيوعية من موسكو باتجاه العواصم الغربية الكبرى.

هؤلاء في الحقيقة أقرب ما يكون إلى ما يمكن تسميتهم بالسلطويين الجدد أو السلطويين المتحذلقين أكثر من الليبراليين. حيث يعملون على توفير غطاء فكري وسياسي لحكومات إطلاقية فردية تحتاج إلى تسويق نفسها في الخارج بلغة حداثوية ليبرالية، وهم يقومون بهذه المهمة على أحسن وجه ممكن، وهذا حالهم في مصر وبعض بلدان الخليج العربي اليوم مثلا.


أما على الصعيد الاجتماعي، فقد ارتبط اسم الليبرالية بالخيارات الاقتصادية المجحفة بحق الطبقات الوسطى والفئات الضعيفة من المجتمع، في إطار توجهات الليبرالية الجديدة القائمة على الخوصصة وهيمنة الرأسمال على حساب القطاع العام.


كما أن الكثير من النخب التي تدعي الليبرالية قد أحاطت نفسها بهالة من الترف والوجاهة الاجتماعية، في محيط من الفقر والشعور بالحرمان، بما أعطى لكلمة "ليبرالية" معنى سلبيا في الوعي العام.


بيد أن كل هذا لا يعطي مبررا للتخلي عن مصطلح "الليبرالية" جملة وتفصيلا، وإلقاء الرضيع مع الماء الوسخ كما يقول المثل الإنجليزي، بقدر ما يستوجب إعادة غربلة هذا المصطلح وما علق به من تشويه وتحريف، وإجلاء بعض من معانيه المغيبة التي نحتاجها اليوم كعرب ومسلمين أشد الحاجة.


ما أقصده بالليبرالية هنا على وجه التحديد، هو دلالتها السياسية، بما هي الحكم المقيد بسلطة القانون الذي يحترم فصل السلطات واستقلال الإعلام والصحافة وضمان التداول السلمي على السلطة، في إطار النظام الديمقراطي المتعارف عليه.


أما الليبرالية في معناها الفردي والاجتماعي، فهي تعني حرية الاعتقاد والتفكير وحق الناس في اختيار الملبس والذوق واحترام خصوصيات الناس وخياراتهم الفردية والجماعية، في كنف دولة محايدة وتعدد لأنماط الحياة ضمن مجتمع تعددي مفتوح.


ولكن، أن نقول دولة محايدة، فهذا لا يعني أن الدولة لا تلتزم باحترام ثقافة المجتمع وقيمه العامة من تسلط أقلية معينة، مثلما أن من واجبها حماية حقوق الأقلية من الانتهاك والعدوان.


فهُوية الدولة تكتسب من خلال هوية المجتمع العامة، ولكنها لا تتخذ طابعا إكراهيا تدخليا، سواء باسم الدين أو باسم العلمانية.


وبهذا المعنى، فإن مهمة الدولة هي تنظيم شؤون المجتمع وضمان سلامته العامة، وليس إعادة هندسة المجتمع والتحكم فيه بصورة فوقية بأي ادعاءات علمانية أو دينية.


فليس من حق الدولة أن تتدخل لفرض الحجاب باسم الإسلام مثلا، كما ليس من حقها نزعه أو منعه باسم اللائكية. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الدولة الإسلامية التدخلية أو الدولة اللائكية لا توفر الجواب المناسب هنا. 


نعم، هناك حاجة ماسة في العالم الإسلامي لإشاعة قيم الليبرالية، سواء على صعيد أنظمة الحكم أو الثقافة العامة، في أجواء شيوع أنظمة الحكم السلطوي وانتشار ثقافة العنف والتعصب.


حيث يعاني العالم الإسلامي عامة، والعربي منه على وجه الخصوص، من أنماط حكم تسلطية بعضها يتغطى بعباءة الدين والشريعة، وبعضها الآخر يتجمل برداء الحداثة والعلمانية والليبرالية وما شابه ذلك.


وأغلب هذه الحكومات باتت تنزع اليوم إلى استخدام الدين والليبرالية والإصلاح والتحديث وكل شيء، من المقدس إلى المدنّس، لترسيخ سلطويتها وقطع الطريق أمام أي مشروع إصلاح وتطوير جادين.


إن مناهضة هذه السلطويات باسم الإسلام غالبا ما يؤدي إلى تعزيز وضعها وتقوية أنيابها أكثر، لأنها تضع نفسها في خانة الدول المستنيرة والحليفة للغرب، في مناهضة التطرّف والتعصب الإسلامي.


إن العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى نزعة ليبرالية أصيلة، تحيي جذوة الحرية المتأصلة في روح الإسلام، وما كان مشعا وملهما في تجربته التاريخية من تعددية الاعتقاد وحرية التفكير الديني والفلسفي.


وهي النزعة التي حاولت الحركة الإصلاحية إحياءها وتجديدها منذ مطلع القرن التاسع عشر، قبل أن تنكسر الموجة بفعل الاجتياح الاستعماري الغربي، ثم صعود أنظمة الحكم الفردية والتسلطية.


إن ضعف التوجهات الليبرالية في العالم الإسلامي مرده الإخفاق التاريخي الذي يعانيه المسلمون نتيجة وطأة التدخلات العسكرية الخارجية واستفحال الأزمات الداخلية والحروب الأهلية التي تغذي كلها ثقافة الخوف والتوجس وقيم التعصب والعنف.


الإسلام يعلن صراحة، ومن دون مواربة، حرية الاعتقاد والتفكير ورفض أي شكل من أشكال الإكراه في الدين والمعتقد "لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فكما أن حق الإيمان مكفول، فكذلك الحق في الكفر والإلحاد.

كما يعلن الإسلام أنه ليس من حق أحد التدخل في الحياة الخاصة للناس وخياراتهم الحرة "ولا تجسسوا"، كما يدعو إلى احترام معتقدات الناس وخياراتهم وإلى المجادلة بالتي هي أحسن وأقوم "وجادلهم بالتي هي أحسن". 


أما تلك القيود التي تضمنتها المنظومة الفقهية التقليدية إزاء الأقليات والمرأة وغيرها، فهي في الحقيقة مجرد آراء واجتهادات مرتبطة بروح عصرها، وليس هناك ما يلزم الأخذ بها أو تبنيها، من قبيل مفهوم أهل الذمة، ومسألة الردة، والعقوبات البدنية وغيرها. كلها قضايا اجتهادية تاريخية يتوجب النظر إليها بعين ناقدة ومتوازنة من دون تحقير أو تبجيل.


أما مسالة السلطة والحكم، فيمكن البناء على البذور الأولية والمهمة التي زرها الإسلام. ومن ذلك نزع القداسة الدينية عن الحاكم، وكيلا عن المصلحة العامة لا أكثر، وكذلك اعتبار الحكم إطارا مدنيا قائما على مبدأ التعاقد بين الحاكم والمحكوم لا غير. 


أما على الصعيد الواقعي، فتتلخص أم المعارك الكبرى في العالم الإسلامي في جانبين اثنين، أولهما النزعة التدخلية النشطة التي يعاني منها الأفراد والمجتمع في ظل دول تحكمية، وثانيهما البعد التسلطي والاستبدادي لأنظمة الحكم.


هذا يعني أن إحدى أهم الأولويات تتعلق بإدخال نزعة ليبرالية إسلامية على الصعيد الفردي والجماعي، ثم أنسنة أنظمة الحكم المتوحشة، من خلال تقييدها بسلطان الدستور والقانون وتعددية السلطات، واحترام استقلالية القضاء والصحافة والمجتمع المدني وغيرها. 
 
أما على الصعيد الاقتصادي، فالليبرالية ليست مغرية برأيي، وربما كنّا في أمس الحاجة إلى نمط من الليبرالية المتوازنة والمهذبة بالعدالة الاجتماعية، في أجواء التفاوت الطبقي وحالة الحرمان والفقر التي تنخر المجتمعات الإسلامية. 


ولكن مع ذلك، تظل الليبرالية الفكرية والسياسية الرد الأفضل على السلطويات المتوحشة والليبراليات العربية المشوهة. إن ليبرالية أصيلة ومنفتحة هي الخيار الأفضل للإسلام والعصر على السواء.

ٌأقرأ أيضا: السلفيون.. كارثة على الدين والدنيا
9
التعليقات (9)
فتحي جعفرة
الخميس، 22-02-2018 08:19 م
كل النظريات مقبولة و تستند الى منطق يجد صداه عند شريحتن من المجتمع واحدة مثقفة و فاعلة و اخرى جاهلة سلبية من السهل توجيهها "كالقطيع" ...و لكن الواقع الداخلي و خاصة الخارجي المعقد جدا و المستند اساسا على الاقتصاد المرتكز على تجارة السلاح للدول ذات ثروات باطنية و حكومات فاسدة بمثابة كنوز لهم وجب الحفاظ عليها تجعل الجميع يبحث على توافقات مع المتناقضات كل على شاكلته ...
منير اهريمزان
الأربعاء، 21-02-2018 09:42 م
كل هذه الألقاب من الاعب بي عقول الناس...
النهضوي الصادق
الأربعاء، 21-02-2018 11:02 ص
مقال تافه بعيد عن الموضوعية العلمية .. أين المفهوم الفلسفي للليبيرالية ؟ مجرد تحليل سطحي انطباعي بعيد عن الموضوعية العلمية .
مسلم
الثلاثاء، 20-02-2018 12:58 ص
بما أنك تقولين أن الإسلام يسمح بحرية الإيمان ، و أنه يعتبر الحاكم سوى وكيل على المصلحة العامة ، و يكفل الحريات و غير ذلك من الأمور التي تتصف بها اللبيرالية أيضا ، و تؤكدين على احترام تقاليد المجتمع و إن كان حكم ليبرالي ، فلما علينا إتخاد مصطلح آخر غير نظام إسلامي ، و هما يشتركان في كثير من الأمور كما بينتي أنتٍ ، فلماذا أنتم تفضلون كل ما هو غربي على الاسلام .
خالد
الأحد، 18-02-2018 02:15 ص
في نهاية المطاف تريدين تمرير ثنائية مسلم ليبرالي. هذه الثنائية العجيبة واللامتجانسة .وان كانت تدل على شيء فهي تدل على فساد العقائد وقلة الزاد المعارف ومن جمع بين هذين الخطيىتين لايكون الا متاجرا بالدين ونحن في يومنا هذا لانعلم متجاجرين بالدين غبر مايسمون باتباع حركة النهضة اتباع ذلك الخسيس الرخيص .