كتاب عربي 21

الروافد الفكرية للاستبداد

محمد هنيد
1300x600
1300x600

لا شك أن أحد الروافد الأساسية التي مكنت للنظام الاستبدادي العربي إنما تتمثل في المنظومة الفكرية والثقافية التي أرساها طيلة عقود من الزمن فشكلت حزاما منيعا يقيه كل أنواع الثورات والهزات. لكن تآكل المنظومات الاستبدادية العربية ورفضها للتجديد هو الذي خلق هذه الفجوة السحيقة التي تفصل بين التصورات الفكرية للنظام وبين البني الفكرية الشعبية القاعدية خاصة فيما يتعلق بشروط الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والتفكير وحرية الإعلام والتنظّم. 

 

يشمل هذا الحزام كل الأشكال الثقافية والتعليمية والفنية التي تعبر المجتمع وتتشكل داخله ويولي النظام السياسي أهمية قصوى لهذا الحزام وخاصة منه الأشكال الأقرب إلى الوعي القاعدي أو تلك التي تسمح بمداخل بسيطة للوعي مثل القطاع الإعلامي.  

 

يشكل هذا القطاع مدخلا يوميا مباشرا للتواصل مع الفرد والمجموعة ويساهم بشكل محوري في صياغة وعيهم وتحديد ردود أفعالهم وهو ما يفسر سيطرة الدولة الاستبدادية بشكل كلي تقريبا على وسائل الإعلام السمعية والبصرية. لكنه في الحقيقة لا يمثل إلا الحلقة الأخيرة في البناء الفكري للمجتمع ولا يشكل إلا الواجهة السطحية للفكرة وللخبر.إن الجامعات والمدارس والمسارح ودور الثقافة وكذا المساجد ودور العبادة إنما تمثل امتداد طبيعيا لفكر الاستبداد. فهو يوليها أهمية قصوى لأنها تمثل في الحقيقة البنية العميقة لتشكل الوعي الجمعي وتتحكم في ردود أفعاله.

 

ورثت الدولة الاستبدادية العربية حقلا فكريا وثقافيا سليما نسبيا من المرحلة الاستعمارية أي أن الدولة الاستعمارية التي استوطنت مختلف الأرض العربية خلال القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين لم تنجح في تدمير النسيج الفكري والثقافي للأمة. إن الإقرار بسلامة البناء الفكري للأمة بشكل عام إنما يتأسس على قدرة هذا البناء على مقاومة الاحتلال وعلى طرد المستعمر من أجزاء كثيرة من المنطقة.

 

صحيح أن ما سمي بموجة التحرر والاستقلال التي عرفتها الأقطار العربية إنما تدخل في سياق النتائج المباشرة لمخرجات الحرب العالمية الثانية ونهاية عصر الامبراطوريات الكلاسيكية. صحيح أيضا أن مرحلة التحرر هذه إنما تدخل في إطار ما سمي بالاستعمار الجديد أو النيوكلونيالية أي مرحلة الاستعمار غير المباشر. صحيح كذلك أن الدول العربية لم تعرف استقلالا حقيقيا وأن القوى الاستعمارية القديمة لا تزال تتحكم في مصير هذه الدول وفي خياراتها.

 

فبقطع النظر عن صحة هذه الإقرارات فإنه يمكن القول بأن النظام الفكري والثقافي بقي سليما إلى حدّ كبير جدا خلال مرحلة الخمسينات. إن العودة إلى النظام الثقافي خلال هذه الفترة وإلى طبيعة المجتمعات تؤكد أن الفعل الاستعماري الثقافي رغم كل نجاحاته إلا أنه لم يصل إلى مرحلة القضاء على البنية الفكرية واللسانية والثقافية للمجتمعات المستعمرة.

 

لقد عرفت فترة الخمسينات والستينات أوج العطاء الفكري والثقافي العربي والإسلامي على مستوى الانتاج المعرفي والفني. لكن مع بداية تشكل ما سمي بالدولة الوطنية عرف الحزام الفكري أكبر انتكاساته عندما ارتبط بالنظام السياسي وأصبح رهينة له حيث طوّعت السلطة المركزية كل الفضاء الفكري لصالحها ومنعت تطور الأبنية الفكرية بأن فخخت قواعدها الصلبة وجففت كل المنابع التي تزودها بالحياة وبشروط التجدد.

 

اليوم يبلغ البناء الثقافي والفكري العربي حالة متقدمة من التصدع التي تهدد بانهيار البناء كاملا بعد أن حولته الأنظمة السياسية إلى ذراع سياسية يقتصر وجودها على خدمة النظام بمنع كل الأشكال التعبيرية التي تتعارض مع منظوماته الفكرية. لا يقتصر هذا الإنذار على انحدار الأنظمة التعليمية وتراجع ترتيب الجامعات وجدب البحث العلمي بل يتجاوز ذلك إلى غياب الإبداع الثقافي عامة وإلى الانهيار اللساني والسلوكي شبه الكامل. 

 

ليست الأشكال الثقافية الهابطة والمتردية التي تخترق النسيج الاجتماعي والثقافي للدول العربية إلا تعبيرا عن حالة الجدب التي وصلت إليها الأمة بعد أن نجح الاستبداد العربي في تجفيف منابع الإبداع وفي قتل ملكة الفكر وفي إفراغ الأشكال الثقافية من كل قدرة على التجدد.

 

لقد ربط العقل السياسي العربي النظام الثقافي والتعليم بالغرب وبالمؤسسات الغربية وبالمنظومة الفكرية الغربية بشكل أصاب الأنظمة الفكرية العربية بالشلل. هذا الربط لم يكن لاستنباط المناهج الغربية أو للمقارنة بينها وبين المناهج المحلية بل هي جاءت تعويضا للفعل الثقافي العربي برمته بشكل ألغى حضوره إلغاء تاما. 

 

إن سقوط الأنظمة الاستبدادية العربية التي طالتها ثورات الربيع لم يطل كثيرا حيث نجحت هذه الأنظمة في العودة من جديد إلى السلطة بشكل أو بآخر بفضل الحزام الفكري والثقافي الذي أسسته. أي أن عودة الاستبداد على أكتاف الدولة العميقة إنما تم بفضل المنظومة الفكرية للسلطة وعلى رأسها المنظومة الإعلامية.

 

بناء عليه فإن القضاء على الاستبداد لن يكون ممكنا إلا باستئصال نظامه الفكري والثقافي ولن يكون ذلك ممكنا إلا بإنتاج الشروط الحضارية والسياسية التي تسمح بإفراز بدائل له وبتطوير الظروف التي تمنع أطروحات الفكر الاستبدادي العربي من النشوء ومن التطور والتجدد. 

1
التعليقات (1)
بشير
الجمعة، 09-02-2018 05:38 م
الأستاذ محمد ، لا شك أن الانحراف والخروج عن الطريق السليم بدأ مبكرا ، يوم تم الالتفاف وقطع الطريق على الحكم الراشد الذي حكم بغرض ترقية الإنسان وتجسيد مبدأ الشهادة الذي ميز الله أمة التوحيد به ، قطع الطريق على الحكم الراشد باسم الملك العضود اعتمد من البداية ترهيب الناس والتضييق عليهم في أمنهم وأمانهم لقرون ، ورغم ذلك لم يربط هذا النظام نفسه بأنظمة أخرى كانت وقتها قائمة ، لم يرتبط بها بغرض الاحتماء من الشعب أو الرعية ، مثل هذا حافظ على مساحات اجتماعية وثقافية لم تشتغل بالسياسة من بعيد أو قريب مما جعلها في مأمن من أذى السلطان ، وهذا الذي ساعد على ارتقاء المنتوج المعرفي والفكري بعيد عن ساحة الحاكم المستبد واهتماماته ، ازدهر الفكر والفن بدرجات متفاوتة ، وأبدع الإنسان في كثير من المجالات ، وسلمت على إثر ذلك منظومة الأسرة ومختلف فضاءات النشاط الجمعي داخل المسجد والحقل والسوق في جو أشبه بحياة مجتمع داخل مجتمع ، من جهة مجتمع السلطان أو الملك أو الحاكم المستبد ، ومجتمع الرعية الذي هو بمثابة الهوامش التي تسند المجتمع الأول .ولذلك استطاعت الهوامش أو مجتمع الرعية أن يصمد طويلا أمام سياسات الاستعمار بدايات القرن التاسع عشر وأربعينيات القرن العشرين . أما الفترة التي تلت خروج عساكر الاستعمار وقيام الدولة الوطنية فقد خلفت أنظمة استبدادية من نوع خاص ، استطاع المستعمر إفراغها من كل نظام فكري وجفف منابعها من كل وقود حضاري ، فتحولت هذه الأنظمة إلى عالة أثقلت كاهل الهوامش التي لم تسلم من دسائس المستعمر رغم مغادرة الديار ، ولذلك تحولت الأنظمة إلى خدمة سياسات المستعمر كحتمية من حتميات البقاء ، لذلك تأثرت سلبا البنى الفكرية والثقافية ووصل الحال إلى حد لا يطاق . لذلك ولذلك فقط وجب مقاربة المشكلة ، ليس من وجهة سياسية ، الحل ليس سياسيا ، المقاربة هي مقاربة حضارية ، هذا ما نحتاجه جميعا في هذه المرحلة . شكرا والسلام .