كتاب عربي 21

جوردان بيترسون ونظرية "الغرفة النظيفة" للتغيير الاجتماعي

شهيد بولسين
1300x600
1300x600
عندما لا يتحدث دكتور جوردان ب. بيترسون؛ مستعرضا تفسيرات للكتاب المقدس مشتقة من كارل يونجو مقتصرة على فئة معينة، وعندما ينشغل بتشريح أيديولوجيات ما بعد الحداثة، فهو في الغالب سيخبرنا بأن نقوم بتنظيف غرفنا. وهي نصيحة قديمة منبثقة من القيم البروتستانتية لبيترسون والتي تقول لك باختصار: "عليك فقط أن تتحمل مسؤولية الأمور الخاضعة لسيطرتك المباشرة".

قد يعكس هذا الفكر تجربته كطبيب نفسي سريري يعالج الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب والقلق، ومن لديهم شعور مهيمن بالعيش في حالة من الفوضى. والفكرة تدور حول تشجيع الناس على العمل بكد؛ سعيا من أجل النجاح في حياتهم اليومية البسيطة، ومساعدتهم على تنظيم حياتهم من الألف إلى الياء. ويقول بيترسون إننا يجب أن نكون حريصين على البقاء ضمن حدود كفاءتنا الخاصة، مما يعني أن معظم الناس لا ينبغي أن يشغلوا أنفسهم بـ"تغيير العالم".

وقد تأثر رأي بيترسون بتعرضه لأنماط مختلفة في الحرم الجامعي؛ من شباب الناشطين السياسيين، وأصحاب المثل، وفي كثير من الأحيان لضيقي الأفق والسذج. فهو يراهم (ربما بدقة) مثل من يقضم أكثر مما يمكن أن يمضغ ويهضم، كما يراهم يكرسون أنفسهم لتغيير المجتمع نحو الأفضل، في حين أنهم إما لم يفعلوا إلا القليل لتحسين أنفسهم، وتطوير أفكارهم، وتأسيس نضجهم، أو لم يفعلوا شيئا على الإطلاق.

والمشكلة هي أن كل هذه السياقات التي أثرت على وجهات نظر بيترسون نابعة من وجهة نظر مشوهة جدا. فبيترسون، على سبيل المثال، لم يشارك أبدا في أي نشاط اجتماعي أو سياسي أو حقوقي، وبالتالي فنقده يعتبر أحادي الجانب، فهو يفتقر لأدنى فكر عن نوع المناقشات التي تجري بين الناشطين، ولا يعرف شيئا عن حياتهم، كما لا يعرف في الواقع إن كانت غرفهم نظيفة بالفعل أو غير نظيفة.

كما أنه فشل تمام في إدراك أن الأغلبية الساحقة من الناس ينفذون نصيحته بالفعل؛ أي أنهم فعليا مستهلكون كليا بحياتهم اليومية الخاصة، وشواغلهم الخاصة، وقضاياهم الشخصية، وليس لديهم سوى القليل من الاهتمام بأي شيء آخر يحدث في المجتمع، أو في العالم، ولا يؤثر عليهم مباشرة. وهذا هو بالتحديد السبب في أن العديد من النشطاء أصبحوا في غاية الاتقاد والصرامة، فمشورة بيترسون تشجع نهجا للحياة يؤسس للناس بارتكاب الظلم المروع دون أي بوادر مسبقة.

لقد رأيت بنفسي كيف نجح بعض الأشخاص العاديون في تأخير اتفاقية قرض كارثية بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، والسبب الوحيد لعدم تمكنهم من تعطيل الاتفاق تماما هو أن عددا كبيرا جدا من المصريين اختاروا للأسف الانشغال بحياتهم الخاصة. وقد أدى أثر ذلك الاتفاق بالفعل إلى زيادة مؤشر البؤس لملايين الأشخاص في مصر. فالتركيز الشديد على "تنظيف غرفهم الخاصة" الذي منعهم من المشاركة في معارضة صندوق النقد الدولي، زاد من احتمال عدم وجود غرف خاصة بهم لتنظيفها في المستقبل القريب.

وفي نفس الوقت، رأيت ربة منزل من إنجلترا تقوم بتنظيم حملة لإرسال قوارب على الجانب الآخر من العالم لإنقاد اللاجئين الروهينجا من الذبح المحقق. هل كان من الأفضل أن تهتم بتنظيم خزانة ملابسها؟

وكذلك عرفت زوجا وأبا يكافح كل شهر لدفع إيجاره الخاص وتلبية احتياجات أسرته الأساسية. وفي الوقت نفسه، يقوم بجمع مئات الآلاف من الدولارات للأعمال الخيرية لتمويل جهود الإغاثة في العالم الثالث، مما جعل ملايين الأرواح أفضل. فهل كان من الأفضل أن يتجاهل هذه الجهود لصالح وظيفة مكتبية ثابتة من 9 صباحا إلى 5 مساء، بأجر يعينه على العيش؟

لقد تقدمت كل حركة اجتماعية وسياسية هامة على يد أفراد راغبين في التضحية برفاههم، وراحتهم الخاصة، ومصلحتهم الشخصية، من أجل قضية أكبر من أنفسهم. إن النظرية القائلة بأن المجتمع كان يمكن أن يتقدم بنفس الطريقة أو بطريقة أفضل، إذا التفت كل هؤلاء الناس لترتيب غرفهم الخاصة - إذا جاز التعبير - لهي نظرية مشكوك فيها في أحسن الأحوال، ووهمية في أسوأها.

أوافق تماما على أن الجميع يجب أن يحاولوا البقاء داخل حدود كفاءتهم، ولكني لا أتفق على الإطلاق مع مبدأ أن هذه الحدود يمكن أن نفترضها، فنحن ? يمكن أن نعرف بشكل قاطع حدود قدراتنا الفردية حتى نحاول. وهناك أيضا شيئا يمكن أن يقال عن الدرجة التي قد تتضاعف بها الكفاءة الفردية عندما تجتمع مع كفاءة الآخرين عبر التضامن في الجهد الجماعي. وهذا أمر حقيقي جدا، ومرة أخرى يشهد على ذلك الانتصارات العديدة للحركات الاجتماعية والسياسية على مر التاريخ. إن نظرية "الغرفة النظيفة" هي في حقيقتها حجة ضد التضامن.

لا أعتقد أن الأمر واضح كما يعتقد بيترسون، فهو يرى أن الشخص الذي لا يستطيع التركيز على "تنظيف غرفته الخاصة"؛ سيكون غير قادر تلقائيا على فعل أي شيء أكبر أو أكثر تعقيدا من ذلك. ولكني في الواقع قد أجزم أنه في كثير من الأحيان يختار الناس الدخول في التحديات الأكبر، والأكثر تعقيدا ? لشيء إ? ?نهم قد قاموا بتقييمها (عن حق) على أنها أكثر أهمية وأكثر إلحاحا من غرفهم، ولو فرضنا أنهم استجابوا لنصيحة بيترسون، فإنهم كانوا سيقوضون إمكاناتهم الخاصة، ويسلبون العالم مما كان في إمكانهم تقديمه.

الغرفة النظيفة ليست بالضرورة "رحما" يولد منه عالم أفضل وأكثر عدلا، فهي نصيحة سليمة ولكن نطاق تطبيقها ضيق جدا. فإذا التزمنا بها بحذافيرها ستصبح دعوة إلى التمحور الذاتي واللامبالاة.. في بعض الأحيان، سيكون عليك أن تخرج من غرفتك، بغض النظر عن حالتها، وأن تدفع نفسك لاكتشاف حدود كفاءتك، باذ? من الجهد ما سيصل بك إلى ما هو أكبر من مصلحتك الذاتية والشخصية. 
1
التعليقات (1)
سامر
الأربعاء، 07-02-2018 06:14 ص
نادرا ما أقرأ لكاتب يثري معلوماتي ويوسع آفاقي وقد فعلتها أستاذ شهيد. فشكرا لك.