مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

فتنة التأييد

 

أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، كان من أبرز الأحداث التي وقعت في السجن أثناء الحرب؛ طرح فكرة تأييد عبد الناصر. وبدأت هذه الفكرة عندما تقدم بعض الضباط الإخوان المسجونين بعرض عن استعدادهم للقتال في صفوف الجيش المصري عند الاعتداء الثلاثي على مصر. وأخذت المباحث العامة من هذا العرض فرصة لتأييد عبد الناصر، فرسمت وخططت لها، وأخذت تضغط بشدة على أسر الإخوان في السجن وخارجه، بالوعود المعسولة تارة، وبالتهديد والاعتداء والتجويع والاعتقال والتعذيب، تارة أخرى.

وهكذا عاشت الأسر في رعب وخوف، وأفهمها ضباط المباحث أنه لا إنقاذ لكم من هذه الحالة إلا بالرجوع إلى أبنائكم في السجون وإلزامهم بضرورة تأييد الرئيس. وكان أهالي الإخوان يقولون لهم عند زيارتهم في حسرة وبكاء: البيوت خربت.. والأبناء تشردت.. والأعراض هددت، فارحمونا يرحمكم الله.. ولكن كان كثير من الإخوان قد رفضوا هذه الوسيلة الحقيرة في سبيل الإفراج عنهم. وكانت تتكرر هذه الضغوط من ضباط المباحث مرة تلو الأخرى على أسر الإخوان، وبالتهديد المخيف، واستعمال أساليب البطش والتنكيل بهم.. حتى أجبروا زوجات بعض من الإخوان على طلب الطلاق من أزواجهن. وازداد هذا البلاء، وعظمت المصيبة على الإخوان، فاضطر بعضهم إلى مجاراة ضباط المباحث، وكتبوا تأييدا رغما عنهم. وأما معظم الإخوان، فقد صبروا وصابروا ورابطوا في سبيل دعوتهم، وتحملوا صنوف الضغط والإرهاب في السجون وخارجها، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وظلوا يتحدون الظالم في ثبات لا يعادله إلا ثبات الجبال الراسيات.

عندما حدث هذا الانقسام في سجن الواحات، انتقل المؤيدون إلى خيمٍ أخرى. ورفضت قيادات الإخوان ذلك، وأدركت أن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، وكان منها الأساتذة: عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر ومصطفى مشهور وأحمد حسنين ونصر جاد وعثمان صديق وآل شريت، ومجموعة أخرى كان عددهم يقترب من السبعين؛ تحملوا ما لم يتحمله بشر، وقضوا مدةَ السجن كاملة. وأراد الله أن يتمسَّك هؤلاء الرجال بمواقفهم ولا يتمسكوا برأي الخصوم، حتى جاءتنا الأوامر من الإخوان بأن نستعد للتضييق ولحياة أصعب، ووصلت عربات اللوري بعد منتصف الليل، وأخذت تنقلنا، وبدأت تشق عباب الصحراء متجهة بنا إلى المحاريق.

"ع المحاريق"

ونحن في سجن الواحات، فوجئنا في أحد الأيام (بعد حادث طرة الذي قتل فيه الإخوان وبعد مغادرة إسماعيل همت وهو يجر ذيل الخيبة) بأنهم ينقلوننا إلى سجن المحاريق في الواحات أيضا، وهو سجن مغلق، لكن عندما جاءت السيارات لنقل الإخوان إليه، تفجرت قريحه الأخ سعد سرور، فأبدع زجلا روّح به على إخوانه، فأخذوا ينشدونه أثناء ركوب السيارات وتوجههم إلى المحاريق. فكان مما قال:

ع المحاريق ع المحاريق... ربك بكره يفك الضيق

والله رجعنا للزنازين... أوعى تكون مهموم وحزين

شد العزم وقول يا معين... لف النمرة وياللا قوام

وأتقل واصبر ع الأيام.. وأبقى في وقت الحق جريء

 كانت مأساة كبيرة جدا؛ لأنهم حرمونا من كل هذا الخير، فقد كنا نعيش "ملكي"، أما في سجن المحاريق، فكان سجنا مغلقا تماما، ويضعون في الزنزانة 25 أو 30 أخا، على الرغم من أنها لا تحتمل أكثر من عشرة. وجعلونا نرتدي زي السجن بمفرده دون أي ملابس أخرى تحته، ومنعوا عنا كل شيء.

فأنشد لنا الأخ سعد سرور:

محلاها والله الزنزانة... مزنوقة ولكن سايعانا

والقعدة فيها عجبانا... وقلوبنا سعيدة وفرحانة

النومة عل الأبراش حلوه... وبقينا مع الله في خلوة

وكتاب الله أجمل سلوى... وآياته تنور دنيانا

حديث شرس مع ضابط

وأتذكر أيضا أنني فوجئت في يوم من الأيام بعبد العال سلومة، وهو من ضباط السجن، ورجل من المخابرات؛ يرسلان إليَّ، وظل الإخوان ينظرون من النافذة ماذا سيحدث. وذهبت إلى المكتب، وقلت في نفسي إنني مضروب مضروب فآخذ حقي. ووقف أمامي أحد الإخوان الكرام رحمه الله، وكان قد انهار وأيد عبد الناصر من شدة التعذيب. ثم قال سلومة: إن فلانا هذا يقول إن عندك سلاحا.. فقلت له: وهل أنكر أن عندي سلاحا؟ وهل كنت أحارب اليهود والإنجليز ببيض وطماطم، أم كنت أحاربهم بسلاح؟! والذي يقف أمامك هذا كثيرا ما حمل على كتفه السلاح، فعندما رآني أتحدث بهذه القوة قال لي: أليس للإخوان أخطاء؟ فقلت له: كل حي يخطئ، ولكن أليس للإخوان أمجاد يا عبد العال بك؟ فقال لي: ومن ينكر أمجاد الإخوان المسلمين؟ فقلت له: أنا صاحب هذه الأمجاد، والذي يتخلى عن الإخوان المسلمين اليوم هو صاحب أخطائها. فقال لي: هيا اخرج هيا...

فلا أنسى أبدا كيف أنطقني الله بهذه الأجوبة المسكتة، وكيف أعطاني الفرصة مع هذا الملعون حتى اعترف هو أن الإخوان المسلمين لهم أمجاد، وأنه أصلا كان من الإخوان وتركهم. وبعد ذلك فتحوا لنا الزنازين، وأصبحنا نخرج، وجعلنا المحاريق مثلما كانت الواحات، فكنا نخرج إلى المزرعة لنزرعها. وعندما وجدوا نشاطنا، برزت لديهم فكرة أن يأخذونا لنعمل في الإصلاح الزراعي. وفعلا، كانت السيارة تأتي لتحملنا، ونذهب نحن والشيوعيون لنعمل هناك. وكانت فترة طيبة جدا، فقد حفظت نصف القرآن بالتلقي في تلك الفترة، فكنت أمسك بيد المقطف والأخ سعيد البواب كان يمسك باليد الأخرى، وحفظني نصف القرآن بهذه الطريقة. وكان خيرا كثيرا لنا، وأنجزنا في الإصلاح الزراعي إنجازا طيبا، لكنه كان في النهاية كان مهزلة بكل المقاييس، فالمشرفون علينا لم يكونوا إلا أشخاصا منتفعين.

تورتة بعيدان الكبريت

في هذا السجن، كانت أجمل هدية يرسلها الأخ لأخيه عبر شراعات الزنازين؛ هي كسرة خبر.. ويوم احتفلنا في الزنزانة بذكر ميلاد الأخ حامد الغمراوي، كانت مفاجأة تورتة مرصعة بعيدان الكبريت التي نجح وزير تموين الزنزانة في تدبيرها...

كانت التورتة عبارة عن رغيف من الخبز مدهون بالعسل الأسمر، تقاسمناه نحن العشرة عقب الحفل بنهم وامتنان.

وحرقوا ملابسنا

كانت نية الاستفزاز واضحة في كل أمر، وكل حركة، وكل نظرة إلينا.. وقمنا بتنفيذ ما طلب منا، وسرنا صفوفا أمام أكوام ثلاثة من البطاطين وملابس السجن الزرقاء والأبراش، وكل منا يتأبط نمرته؛ تسوقه زمجرات البشلاوى وصيحاته إلى إحدى الزنازين. وكلما ازدحمت زنزانة ملؤوا الأخرى، ثم أحكموا غلق الزنازين وانصرفوا..

وفي اليوم التالي، أضرموا النار في جميع أمتعتنا، وأتت النار على أمتعة المؤيدين أيضا من باب الخطأ.. ولم يفوّت السجانة والموظفون الفرصة، فنهبوا ما استطاعت أيديهم أن تصل إليه قبل أن تأتي عليه النار.

وهكذا خرجنا إلى الحياة البسيطة، وتخلصنا من فوارقنا الشكلية ومن كل متاع الدنيا، وهذه الحياة البسيطة لا تميز فيها لأحد على أحد في ملبس أو مأكل أو مسكن.

عشنا في سجن المحاريق حتى 2 أيار/ مايو عام 1964 م.. وكان يعيش معنا أيضا الشيوعيون في نفس السجن حتى تدخل الرئيس السوفيتي خروشوف، وأفرجت الحكومة عن الشيوعيين جميعا وقامت بترحيل الإخوان إلى سجن قنا.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (20)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (19)

التعليقات (0)