قضايا وآراء

الراقصة والسياسي.. وسلة البيض الفاسد

عمرو عادل
1300x600
1300x600
السنيما تعتبر واحدة من أقوى الوسائل القادرة على صناعة الوعي، وربما يستطيع مشهد سنيمائي واحد فعل ما لا تفعله آلاف الكتب؛ فمشهد الفنانة الراحلة شادية وهي تفتح الهويس في فيلم شيء من الخوف يتجاوز في تأثيره آلاف المقالات التي تدعو للتمرد على الظلم، كما أن مشهد حرق بيت عتريس في نهاية الفيلم هو تثوير مباشر وسريع يتجاوز محاولات الثوريين لإشعال الشارع مئات المرات؟ والسنيما - بدرجة ما - يمكنها تحويل الأدب المقروء إلى صورة، وتوصيل الأفكار إلى أكبر عدد ممكن ممن لا يحبون قراءة الكتب.

فمثلا؛ كيف كانت الملايين ستعرف الكاتب المبدع إحسان عبد القدوس، وكيف كنا سنعرف وجهة نظره في الكثير من السياسيين، وأنه يرى أن الراقصة التي تبيع جسدها والسياسي الذي يبيع عقله سواء، وأن الرقص على المسرح هو وسيلة الراقصة لبيع الجسد، تماما كما الرقص على المنصات وأمام الميكروفونات هو سوق السياسي لبيع عقله.

هذا التشبيه الصادم من الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس قد نعتبره تجاوزا في حق العمل السياسي. ولكن الحقيقة أن الواقع، سواء في بلادنا أو الكثير من بلدان العالم، نجد أن ما قاله يتطابق مع ما يقرب من 80 في المئة من السياسيين على الساحة، وأن معظمهم يرى أن علاقة السياسة بالأخلاق مثل المعلم الأكبر ميكافيلي، وبالتالي ليست هناك مشكلة في التخلي عن أي شيء، وتغيير المواقع والأفكار؛ لأن ذلك لا يعتبر مشكلة في المنهج السياسي، بل يعتبر واحدا من متطلبات العمل؛ فالسياسي "الحكيم" لا يجب أن يحتفظ بإيمانه عندما يكون ضده.

النظام السياسي بشكل عام في الدولة الحديثة؛ ربما لا يمكنه الوجود بغير هذا القدر من "الميكافيللية"، إن صح التعبير. فأحد الأصول الفكرية للدولة الحديثة هو أن هذا النظام هو صانع الأخلاق والعدل والقانون والإيمان، فهو يفصل بين البشر وتاريخهم وكل معتقداتهم، ويصنع معتقدات وأفكارا جديدة، وتصبح الدولة هي الدولة الإله، والإله هو صاحب الحق في تحديد مفهوم الحق والأخلاق والإيمان.

لذلك، فإن هذا النظام لا يمكن أن يعيش بغير عداء لأي أفكار مخالفة له، وخاصة الدين غير الفلكلوري، ربما يشجع الأديان الفلكلورية من باب كونها أفيونا للشعوب، وإحدى أدوات تخديرها بصكوك الغفران في الحياة الأخرى، أو تناسخ الأرواح، وأن الحياة الأخرى ستكون ممتعة بقدر استسلامك، إلا أنه غير قادر على تحمل دين أو أيديولوجية تسعى للسلطة بأفكار وأخلاق ومفاهيم تعارض الإله الجديد.

ليس هناك حاجة للحديث عن مواقف بعينها، فواقع مصر أكثر وضوحا من أي محاولات لتوصيفه، ولكن علينا أن نتعلم كيف نتعامل مع المستقبل في ظل نظام حاكم فقد عقله يدفع بمصر إلى الجحيم من ناحية، وبين "سياسيين حكماء" على الناحية الأخرى؛ لا يمكنك أن تحدد ماذا يريدون، فهم يتحركون بسرعة شديدة وساحقة، ولا يتذكرون ماذا قالوا بالأمس - أو بمعنى أدق يتناسون - فمع ظهور مخلص الثورة المضادة الأول، تراقصت الألسنة على الميكروفونات والمنصات بظهور المخلص - كوميديا سياسية حكيمة حقيقية - ومع انسحاب المخلص أثناء وجوده في أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة؛ عادت الألسنة للرقص الجديد أمام نفس الميكروفونات بضرورة الانسحاب من هذه الانتخابات الظالمة، ولم تلبث إلا أياما قليلة وعادت من جديد للرقص على أنغام مرشح جديد ومخلص برداء كاكي جديد.

يبدو أن بعضا منا، وكثيرا من الشعب المصري، يفتقدون إلى الحكمة السياسية التي تجعلنا نفهم هذه الأفعال "السياسية العميقة" - من الشمخ الجواني - كما يردد المصريين، ومن واجبنا أن نستمتع بهذا العمل السياسي العميق، ونحاول إدراك الحكمة المختبئة خلف الترنح السياسي.

ويجب في هذا المجال تقديم التحية لقادة مشروع 30 حزيران/ يونيو على إصرارهم الكبير على موقفهم المبدئي، فهم مع هذا الترنح يدركون هدفهم النهائي، ويصرون على موقفهم المبدئي المعلن منذ انتصار إرادة الشعب في انتخابات الرئاسة 2012، واستمرارهم في العمل على إنهاء تلك "الفوضى" الناشئة عن وصول الشعب للحكم، والإصرار على عودة "من يستحقون الحكم إليه". فمن وجهة نظرهم التي يحاولون فرضها بإصرار منقطع النظير؛ أن مصر إما تحكمها نخب راقصة أو عسكر خائن، وأن الصراع يبقى بينهما وبينهما فقط، وأن دخول الشعب للمعادلة كان خطأ يجب عدم تكراره.

لقد أثبتت أحداث الأعوام العشر السابقة أن سلة البيض كلها فاسدة، وعلى من يريدون تحريرا لمصر والمنطقة الكف عن البحث بداخل تلك السلة عن منتج صالح، فقد استطاع البيض الفاسد التوغل، وأصبحت مدنا عدة في أنحاء العالم مراكز للثورة المضادة بعد أن كانت جزءا من المد الثوري، وهذا نجاح كبير لمشروع 30 حزيران/ يونيو، وهو جزء أصيل من الثورة المضادة، وربما يتعاون بشكل ما مع مركزها الرئيسي الجاثم على صدر مصر.

أتذكر أبيات أمل دنقل الذي قالها سبارتكوس يخاطب بها ابنه وهو مصلوب:

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!

وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..

ودمعة سدى!

هذه الكلمات ستكون صحيحة إذا استمرت سلة البيض الفاسد تعبث بمستقبل مصر، ترفع قيصرا مكان قيصر، مرتدية عباءة الثورة وأيديها ملوثة بدماء الثوار على المشانق وفي ساحات الثورة.
التعليقات (0)