مقالات مختارة

السودان بوابة إفريقيا وجنة العرب المضيعة

صالح عوض
1300x600
1300x600

بعيدا عن التنازعات الوقتية الزائلة حتما بين الأشقاء، يجب الالتفات إلى السودان باهتمام وألا يترك نهبا للأطماع الصهيونية والغربية فيضيع منا كما ضاعت منا أقطار عزيزة غالية، فهناك على بوابة القرن الإفريقي يقف السودان مجاورا سبع دول إفريقية يتداخل العربي فيها بالإفريقي، مما يعطي للموقع حساسية خاصة بمساحة تقترب من مليوني كيلومتر مربع وبسكان يزيدون عن 35 مليون نسمة، وبموارد طبيعية بكر لم تمتد إليها يد الإنسان، وهي سلة غذاء العرب في معركة الصراع على الغذاء القادمة، ويمتد على البحر الأحمر مشكِّلا معبرا وحيدا لدول مغلقة في أعماق إفريقيا.

في تناول ملف هذا البلد نكتشف عدة قضايا تلقي بضوئها على واقعنا العربي والإسلامي، أولها؛ أن هذا البلد الذي يكاد يكون مغيبا من وسائل الإعلام ومن الاهتمام السياسي من قبل النظام العربي، وليس من حديث عن دور إقليمي يتمتع به من قبل الإعلاميون والمثقفون، هو بلد يزخر بأنواع التعدد الاستراتيجي من حيث الثروة والموقع الجيوسياسي. ثانيها؛ أن الإهمال المتعمد من قبل الأطراف العربية الأخرى للاهتمام بهذا البلد الاستثناء في عنصريه التوغل في إفريقيا والوفرة الكبيرة لعناصر الحياة، يعني بوضوح أننا نقع تحت ضغط توجيهات غربية لصرفنا عن إمكانياتنا الطبيعية، واضطرارنا إلى التسوّل على أبواب الغرب وشركاته في مجالات عديدة، على رأسها الغذاء لتستمر عملية تبعيتنا للغرب الاستعماري. ثالثا؛ أن النزاع السياسي بين الأنظمة العربية بشع إلى درجة أنه يعبر عن الهزال الذي يصيب العقل العربي السياسي المعاصر، حيث يكفي أن تختلف وجهة نظر رأس النظام هنا مع رأس النظام هناك، لتحرم الأمة من التكامل والرفاه والسعادة ويستبدل ذلك بالحروب والتآمر على الأمن الداخلي للبلد والاستقواء بالأجنبي.

 

وهنا لابد من الإشارة إلى مسألتين؛ الأولى تلك التي تتعلق بالجانب الجيوسياسي، والثانية تلك التي تتعلق بجانب المخزون الاستراتيجي للعرب من حيث الغذاء والمياه. وتكامل هاتين المسألتين يعني أننا نحدد ملامح السودان وملامح قضيته في الحس العربي والمستقبل العربي.


فعلى صعيد كونه مخزونا غذائيا استراتيجيا للعرب، يكفي أن نعطي بعض الأرقام لعلها كافية أن تصدم عدم مبالاتنا وتركنا لنعم الله التي تجري بيننا دونما تدبر منا أو استفادة؛ ففي السودان تتنوع أصناف الحيوان "جمال وأبقار وأغنام وضأن" ويقدر عددها بـ110 مليون رأس تم إحصاؤها، وهناك ملايين الأبقار التي ترعى من دون إحصاء في مراع شاسعة تزيدها الأمطار والنيل بفرعيه وروافده العديدة خصبا وحيوية. كما أن الثروة السمكية التي يوفرها النيل والبحر الأحمر تعد ثروة سمكية ضخمة يقدر مخزونها بـ110 ألف طن في العام، وفي السودان توجد كميات مذهلة من الذهب والفضة والكروم والزنك واحتياطي كبير من البترول والغاز الطبيعي، وتوجد الأراضي الشاسعة على مد طول وعرض السودان تصلح للزراعة بأرخص التكلفات لتوفر المياه وخصوبة الأرض. فيكفي أن نعرف أن الأراضي الخصبة المسطحة متوفرة المياه تبلغ مساحتها أكثر من 100 مليون هكتار، تصلح لإنتاج تنوع مزروعات لا يجتمع لسواها، ويتربع السكر والزيت على رأسها، والغابات تغطي 12% من أراضي السودان.


أما الموقع الجيوسياسي فيكفي أن نشير إلى أن السودان يتحكم في مفاتيح القرن الإفريقي سياسيا وثقافيا، ولقد عاد السودان موئلا لشعوب الإقليم من حيث المعيشة والثقافة بقيام السودان بمهمة رسالية بالتعريف بالإسلام والعربية، من خلال معاهده وجامعاته المتخصصة في هذا المجال، ورغم أن الأجهزة الأمنية الصهيونية وبدعم فرنسي وأمريكي قامت بتحشيد قوى إقليمية وداخلية لتفتيت السودان، إلا أن الجغرافيا أصرت على إسقاط الدخيل المصطنع وواجهت وحدة السودان الجغرافية الحديثة اهتزازات كادت تعصف به، ونحن نرى كل دول المحيط تتآمر عليه بعمل عسكري تخريبي، وتعد القواعد العسكرية للمتمردين على كل حدوده وتقوم بتسريب السلاح للمجموعات المتمردة، التي كانت قوى الانفصال الجنوبي على رأسها، حيث كانت تتمتع بحضور لدى كل دول الإقليم، وبعد أن فرضوا على السودان خيارا اضطراريا، أما أن يتخلى عن جنوبه أو يتبعثر إلى أكثر من كيان سياسي متناحر، ترك الأمر لاستفتاء غير علمي وغير صحيح البتة، خرج بنتيجة الانفصال الذي أهدى هديته الأولى للكيان الصهيوني بزيارة رئيس جنوب السودان تل أبيب في أول خروج له، مؤكدا من خلال تصريحات بثتها شبكات التلفزيون والإعلام أنه لولا إسرائيل لما قامت دولة جنوب السودان.

 

وتعرض السودان بفعل خياراته السياسية وتمسكه بالقضية العربية المركزية فلسطين إلى اعتداءات صهيونية أمريكية متكررة، من خلال قصف مستشفياته ومعامل الأدوية وقتل مواطنين أبرياء، ومن ثم فرض عقوبات مست كل أنواع الحياة في السودان، وفرض قوانين دولية تلاحق قياداته وتضعهم على قوائم الأنتربول الدولي. واستمر الضغط لتفجير السودان إلى أقاليم متناثرة في دارفور وكردفان وسوى ذلك من ولايات.

 

وهنا لابد من النظر إلى التركيبة العجيبة للمخطط الغربي الاستعماري؛ إذ يتم استفزاز الدولة الوطنية من خلال تحريك بعض المتمردين لتنصرف الدولة إلى التسليح وتجهيز الجيش، مما يستدعي ضرورة توفر إمكانيات مادية، وهنا تفرض العقوبات ويصبح الفقر عنوان البلد، مما يزيد الاضطرابات والقلاقل ثم تفرض على البلد صيغ التجزئة.


خاض السودان معركة الوجود وحيدا وهو مهدد بتقسيم بلده إلى خمسة أقاليم إن لم يدرك العرب وبالذات المجاورون خطورة ذلك، التي تتمثل في أن إسرائيل ستصبح جارتهم الإفريقية، وأن التناحر القبلي سيؤدي إلى انتشار الإرهاب، وأن غياب دولة سودانية جامعة مانعة يعني أن بلاد السودان ستصدِّر الإرهاب والسلاح، كما هو حال  ليبيا الآن وأسوأ من ذلك.


أمنيا واستراتيجيا، يوفر استقرار السودان حصانة عربية استراتيجية للأمن القومي العربي، لاسيما لمصر وبلاد المغرب العربي، كما أنه تمدد للنفوذ العربي في مواجهة النفوذ الصهيوني في إفريقيا. واستراتيجيا يكون استقرار السودان فرصة كبيرة للاستثمار العربي في منطقة هي الأخصب في بلداننا العربية، يمكنها أن تغطي كل احتياجاتنا الغذائية وتوفر لنا فرص القرار السياسي المستقلّ غير المرهون بالتبعية الغذائية للغرب الاستعماري. واستراتيجيا أيضا يمكن النظر إلى هذا البلد على اعتبار أنه يمثل رأس القرن الإفريقي، وحماية خاصرة العرب الاستراتيجية بالقرب من باب المندب، وبذلك يكون البحر الأحمر بحيرة عربية بامتياز.


ومن هنا يصبح الحرص على هذا البلد العربي والاستفادة منه بمنزلة ركيزة أساسية للأمن الغذائي العربي والأمن الاستراتيجي العربي. والمسألة تظل رهينة القرار السياسي العربي الذي ينبغي أن يتحرر من الحسابات الضيقة وأحيانا الشخصية من أجل رفعة الأمة وتأملها، وتوفير غذائها وكسائها ودوائها بتكلفة مقدور عليها.


التنوع في إطار التكامل هو بلا شك فرصتنا للخروج من مأزقنا الحضاري، ومن هنا يصبح لكل بلد عربي مهمة ورسالة  لعلنا نخرج من ساحة تداعي الأمم علينا يتخطفونا بلدا بلدا في لعبة توزيع النفوذ.. تولانا الله برحمته.

 

الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)