كتاب عربي 21

اغتراب العرب في الغرب أفدح

جعفر عباس
1300x600
1300x600

ما من مرة زرت فيها وطني (السودان)، إلا ووجدت من يطرح علي -العام تلو العام- السؤال: متى ستعود نهائيا وتستقر؟ ويكون ردي على كل متسائل سلسلة من الأسئلة المُفحِمة: وهل أنت المرابط في الوطن مستقر؟ وهل الوطن "على بعضه" مستقر؟ ثم من قال لك إنني أعاني من عدم الاستقرار في مكان عملي وإقامتي في قطر؟ أم أنك تعتقد، أنه وبمجرد عودتي "النهائية" إلى السودان، ستطالب قطر بـ"بدل فاقد" عني، وتستقدمك أنت (السائل)؟


مثل ملايين العرب العاربة والمستنسخة، فإنني أنتمي الى بلد طارد لأبنائه وبناته، وهناك نحو خمس عشرة دولة عربية تعتبر مواطنيها المغتربين في أرض الله الواسعة مصدرا أساسيا للعملات الصعبة، وتشجع من ثم كل من يريد أن يهاجر من وطن بخيل، بحثا عن عيش كريم، في بلد آخر، وما من وطن يبخل على بنيه إلا بفعل فاعل مبني للمعلوم تقديره "حكومة غير راشدة"، و:


لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها/ ولكن أخلاق "الولاة" تضيق


وتبلغ الوقاحة والصفاقة ونكران الجميل بعرب كثيرين، اعتبروا أنفسهم محظوظين لأنهم ظفروا بفرص عمل في دول الخليج، أنهم يعتبرون أهل الخليج غير جديرين بما أعطاهم الله من نِعمِ الثراء، ويرددون في مجالسهم أن "الحَلَق" أي قرط الأذن، صار من نصيب "اللي ملوش ودان"، ومن باب شرح معنى العبارة يقولون "كريم أعطى غشيم".


ولست هنا بصدد معاتبة هذا الصنف من البشر، الذي يعتقد أن من حقه أن يَمُنَّ على أهل الخليج بما قدمه، وما زال يقدمه لهم، من خدمات "جليلة" -وكأنه يفعل ذلك إيمانا واحتسابا- وأن يتبجح بـ"نحن علمناهم الكورة"، و"فتحنا لهم جامعاتنا" و"دكاترتنا عالجوهم". 


فمن يهذي بمثل هذا الكلام لا يعرف معنى أن يغلب الحُوار شيخه، والحوار هو طالب العلم، وكم من طالب علم بذّ أستاذه.

 

نعم، دول الخليج استجلبت خيرة المهنيين والتكنوقراط العرب، وغير العرب، لتستعين بهم في بناء المستقبل، بينما بعض الوافدين على الخليج من أبناء الدول العربية يعيشون على اجترار المجد التليد والماضي العريق، مع أنهم يدركون في دواخلهم أن حاضر بلدانهم يقود إلى درك مستقبلي سحيق.


وأمر المغتربين العرب في منطقة الخليج هين، فمهما استطالت سنوات غربتهم عن أوطانهم، تبقى أوطانهم قريبة جغرافيا ووجدانيا، بالتالي تكون العودة إليها بين الحين والآخر، أو نهائيا ممكنة وسهلة وواردة.


ولأن دول الخليج تعاني من خلل مريع في التركيبة السكانية، لأن عديد العمالة المهاجرة في كل منها، أكبر من عديد مواطنيها الأصليين، فإنها غير ميالة لتجنيس الأجانب العاملين فيها مهما طالت مدة إقاماتهم في أراضيها.

 

وفي المقابل، فإن الكثير من الدول الغربية ترحب بالمهنيين والعمال المهرة، وبعد سنوات معلومة وقصيرة تمنحهم حقوق المواطنة، بالتالي فالعربي صاحب المهنة/ الحرفة الحاذق، يجد الرضا والأمن الوظيفيين في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويكتشف أن قدراته تتطور من عام إلى آخر، ومن ثم تصبح علاقته بوطنه الأم ترانزيت، ثم تنقطع نهائيا.


وانظر -يا رعاك الله- القائمة أدناه، ثم اهتف بلسان كل واحد فيها بـ"أضاعوني وأي فتى أضاعوا":

 

- د. مايكل عطية، بريطاني (من أصل لبناني)، ويعرف عالميا بأنه واحد من أعظم العقول الرياضية في العالم، وأشهر علماء الرياضيات في القرن العشرين.

 

- عمار حياني، (سوري الأصل)، طبيب من مواليد 1959، ابتكر علاجا لمرض سرطان الدم عند الأطفال، في الولايات المتحدة - شيكاغو.

 

-  شادية رفاعي حبال (بريطانية، سورية الأصل)، خريجة جامعة دمشق، تشغل منصب أستاذة فيزياء الفضاء في جامعة ويلز، وترأست تحرير المجلة الدولية الخاصة بفيزياء الفضاء.

 

-  د. عدنان وحّود، عالم ومخترع ألماني (سوري الأصل)، نال وسام المخترعين الأوروبي لعام 2003.

 

-  كارلوس سليم حلو (لبناني الأصل)، رجل أعمال مكسيكي، تم إدراج اسمه كأغنى رجل في العالم بحسب مجلة "فوربس".


- زها حديد، أشهر سيدة معمارية بريطانية عراقية المولد لأب كان وزيرا للمالية في العراق حتى عام 1958، ولديها العديد من الأعمال المعمارية في بريطانيا، ألمانيا، النمسا، أمريكا وأستراليا. 

 

حصلت على جائزة "بريتزكر" في الهندسة المعمارية عام 2004، وهي تعادل في قيمتها جائزة نوبل في الهندسة؛ وجائزة ستيرلينج مرتين؛ وحازت على وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني في عام 2012. 

 

وحازت على الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة ريبا للفنون الهندسية عام 2016.


- محمد نشائي، عالم فيزيائي بريطاني من أصل مصري، استطاع تصحيح بعض الأخطاء والمفاهيم العلمية التي حوتها نظرية النسبية العامة لآينشتاين. 


ثم قدم نظريته الشهيرة التي أطلق عليها نظرية "القوى الأساسية الموحدة"، ونجح خلال عمله أستاذا بقسم الرياضيات والطبيعة النظرية في جامعة كامبريدج في بريطانيا، بأن يؤسس أول مجلة في العلوم "غير الخطية" وتطبيقات العلوم النووية رياضيون.
 
- محجوب عبيد طه، حاز الدكتوراه والأستاذية من جامعة كيمبريدج، وهاجر من وطنه -السودان- في منتصف سبعينيات القرن الماضي. 
 
وعمل بكبريات الجامعات البريطانية والأمريكية، وتوفي وهو أستاذ في جامعة الملك سعود في الرياض، قدم أول تعميم نسبوي لمعادلات فادييف لتصادمات ثلاثة جسيمات مع ثلاثة جسيمات في نطاق نظرية مصفوفة التشتت، واكتشف طريقة رياضية جديدة سميت بـ"طريقة طه" Taha Method لتحليل التكاملات على متغيرات الاندفاع في التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة، وابتكر "قواعد جمع طه" Taha Sum Rule لما يسمى بنظرية الاضطراب.
 
ولولا خشية أن يتحول المقال إلى كشف حساب و"كشف حال"، لأوردت عشرات الأسماء لعرب ضاقت بهم بلدانهم، لضيق أفق القائمين على أمور بلدانهم، فصاروا مثل صخر أخو تماضر الخنساء، الذي كانت "الهداة تأتمُّ به كأنه علم في رأسه نار".
 
وأقول إن اغتراب العرب في الغرب أفدح، لأنهم وبعد أن يجدوا التقدير في المهاجر الغربية، يقطعون الحبل السري الذي يربطهم بأوطانهم الأصلية، لأن التغذية التي يجدونها في الأوطان البديلة منعشة ومدهشة.

التعليقات (0)