كتاب عربي 21

تنامي القمع وتعافي القوى الشعبية

جعفر عباس
1300x600
1300x600

تستخدم الحكومات العربية الأحداث الدامية في سوريا واليمن وليبيا، فزاعة يرهبون بها من يتوقون للحرية والحكم الراشد، الذي يستمد شرعيته من التفويض الشعبي: يعجبكم اللي صاير هناك؟ تريدون لبلدكم أن يكون مسرحا للاضطرابات والفتن؟


طبعا لا يعجبنا اللي صاير هناك، ولكننا نعرف كيف صار اللي صار هناك! وندرك أن الضغط من فوق هو الذي يسبب الانفجار، ونعرف في نفس الوقت، أن من حق الدولة ان تحتكر العنف، ولكن الحكم الراشد يستخدم العنف فقط لضمان السلم الأهلي ولحفظ الأرواح وممتلكات المواطنين وأرضهم وعرضهم، وصد العدوان الخارجي.

يعاني المتعاطفون مع الثورة الشعبية في سوريا من الإحباط، لأن المعارضة المسلحة خسرت – تقريبا - جميع المناطق التي كانت تسيطر عليها، ولكن هذا لا يعني أن الأسد قد انتصر على الشعب، لأن الشعب – وغالبية أفراده عزّل من أي سلاح فيزيائي- لا ولن يقبل به رئيساـ بعد أن تسبب في هلاك وتشريد الملايين وقضى على الزرع والضرع .

وما نشهده من أحداث دموية في الدول الثلاث، تلك جاءت نتيجة استخدام حكومة كل منها العنف المفرط ضد المواطنين على مدى عقود، وبموجب قوانين الفيزياء فإن التنور يفور لحين طويل أو قصير، ثم ينفجر إذا لم تكن فيه فتحة او فسحة للتنفيس.


والحكومات العربية تحتكر أيضا العنف الناعم، بحكم تحكمها في أدوات الإعلام، فتسخرها لترويع المواطنين وتضليلهم وتجهيلهم، وتستخدم لهذا الغرض كتائب من الإعلاميين المطروحين في سوق النخاسة، وتسمح لهم بفتح صنابير الكذب والبذاءة في وجوه الجماهير.


كتبت هنا قبل نحو عام قائلا إن الأحداث الدموية التي تشهدها سوريا واليمن وليبيا – على بشاعتها – ستنتهي بما تشتهيه الثورات الشعبية التي تفجرت فيها في عام 2011، وأنه مهما فرفر بشار الأسد وتعنتر، فهو ذاهب قريبا الى مزبلة التاريخ.


ويعاني المتعاطفون مع الثورة الشعبية في سوريا من الإحباط، لأن المعارضة المسلحة خسرت – تقريبا - جميع المناطق التي كانت تسيطر عليها، ولكن هذا لا يعني ان الأسد قد انتصر على الشعب، لأن الشعب – وغالبية أفراده عزّل من أي سلاح فيزيائي- لا ولن يقبل به رئيساـ بعد أن تسبب في هلاك وتشريد الملايين وقضى على الزرع والضرع .

 

وبشار نفسه يعرف أن استرداد مناطق كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، هو انتصار لروسيا، على الولايات المتحدة وحلفائها، في "لعبة الأمم" والجولة الثانية من الحرب البادرة، وأن العساكر الروس لن يبقوا في سوريا لمدة مفتوحة، يتسنى له خلالها استرداد ما فقده من هيبة أو سلطة، فالدولة التي تفقد هيبتها فاشلة مهما تدججت بالسلاح.

 

وله في الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح أسوة سيئة، لأنه انحنى للعاصفة الشعبية تكتيكيا، وما أن قويت شوكة الحوثيين ودخلوا صنعاء بعد الإطاحة به، وطردوا منها الحكومة التي نالت صفة الشرعية، حتى تزّلف إليهم ودخل معه في زيجة تفتقر إلى التكافؤ .


تظاهر علي صالح والحوثيون بتناسي ما بينهما من دم كما يليق بميكافيليين، ودخل صالح في معارك دامية ضد قوى شعبية مسنودة خارجيا ك"رديف" للحوثيين، ولأنه مغرور عصامي فإن أكثر من ثلاثة عقود في السلطة زادته جهلا، فلم يسال نفسه: هل من المعقول أنه وفي حال انتصار تحالفنا على الحكومة الشرعية، سيعيدني الحوثيون الى القصر الرئاسي؟ ولأنه لم يطرح ذلك السؤال، فقد انتهى به الأمر في قبر غير رئاسي، حفره له حلفاؤه الذين لم ينسوا له ثارات 2004، عندما دكت قوات صالح حصون الحوثيين في صعدة ثم سحلت زعيمهم حسين الحوثي ومثلت بجثته في الشوارع.

رغم أن هناك من يعيب على النظام الديمقراطي بأنه يسمح للشعب أن يطنطن كما يشاء، ويسمح للحكومة أن تطنش الطنطنة وتفعل ما تشاء، إلا أنه لا يهدر آدمية المواطن، بل يعتبر المواطن العادي الحلقة الأضعف في "السلسلة"، ويحرص على توفير الحماية له من البطش والظلم


والراي عندي هو أن أنظمة الحكم الديكتاتورية تعرف أن شرارة الوعي الشعبي ب"الحقوق الواجبة"، التي انطلقت من تونس لم تنطفئ لا في سوريا او اليمن او ليبيا او مصر أو غيرها، بدليل أن الكثير من الدول العربية تشهد زيادة مزعجة في درجات القمع وتكميم الأفواه .


هو قمع استباقي، ودليل خوف مقيم، فما من حكومة تمارس العسف والبطش بحق كل من يقول كلمة أو طُرفة عن الأوضاع في "البلد"، باعتباره عدوا خطرا لها، إلا وهي تدرك "أن الحرب أولها كلام"، بمعنى ان الصحوة الشعبية تكون تدريجية كالحب الذي مساره: ابتسام فكلام فسلام فهمس فلقاء.


أعني، أن تنامي البطش في العديد من الدول العربية، دليل صلب على أن بها قوى تجعل الرعب يسري في أوصال الحكومات، وهناك مثل سوداني بليغ يقول إن "اللي عارف عزّه مستريح"، ويقال بمعنى أن من يعرف أنه صاحب عِزّ وهيبة لا يتأثر بالقيل والقال، ولو كانت حكومة ما واثقة مع عزها / عزوتها لما ضاقت بالكلام، أو لاكتفت بمواجهة الكلام بالكلام، وليس بالقبضة الحديدية.


في بلد ديمقراطي كبريطانيا تستطيع ان تشتم – وليس فقط تنتقد – الملكة ورئيس الحكومة، دون خوف من "وزير الداخلية والأمن"، وحتى كائن مثل الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، جعل أنصار نظرية التطور لتشارلس داروين يتمايلون طربا، لأنه في نظرهم دليل على أن أصل الإنسان شيمبانزي، يعاني من طوفان يومي من النقد القاسي والجارح، ولكنه يكتفي بالرد على منتقديه بكلام أكثر قسوة وتجريحا.


ورغم أن هناك من يعيب على النظام الديمقراطي بأنه يسمح للشعب ان يطنطن كما يشاء، ويسمح للحكومة أن تطنش الطنطنة وتفعل ما تشاء، إلا أنه لا يهدر آدمية المواطن، بل يعتبر المواطن العادي الحلقة الأضعف في "السلسلة"، ويحرص على توفير الحماية له من البطش والظلم، ويكفل له حق الشكوى والاعتراض والانتفاض، والعقبى لنا قريبا إن شاء الله، والغد المأمول لناظره قريب، والظلم ليلته قصيرة .

0
التعليقات (0)