كتاب عربي 21

استراتيجية ترامب "الإمبريالية" للأمن القومي

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600

دأبت الإدارات المتعاقبة للولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد إدارة الرئيس ريغان؛ على إصدار تقرير إلى الكونجرس حول استراتيجية الأمن القومي، يهدف إلى ضمان التفوق الأمريكي في كافة الميادين العسكرية والاقتصادية والتقنية والمدنية وغيرها، وإضعاف قدرة الخصوم المحتملين على المنافسة والتهديد والمناورة، الأمر الذي جعل الاستراتيجية الأمريكية تتلبس بالطابع الإمبراطوري والنهج الإمبريالي. فمهمة الاستراتيجية تقوم على تنسيق وتوجيه جميع الموارد الأمريكية من أجل تحقيق الهدف السياسي للحرب، فالقوة العسكرية هي إحدى الوسائل المستخدمة لإضعاف إرادة العدو، إلى جانب ممارسة الضغوطات الدبلوماسية والإيديولوجية والمالية والتجارية وغيرها.

لا تختلف وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 18كانون الأول/ ديسمبر 2017، في مبادئها الرئيسية جوهريا؛ عن مثيلاتها السابقة، لكنها تحمل بعدا أكثر وقاحة في طابعها الإمبريالي، وأشد فجاجة في ترسيخ عولمة أمريكية أحادية القطب، وهي الاستراتيجية التي يطلبها الكونغرس ووزارة الدفاع من كل إدارة جديدة منذ عام 1986.

 

لا تختلف وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها ترامب في مبادئها الرئيسية جوهريا؛ عن مثيلاتها السابقة، لكنها تحمل بعدا أكثر وقاحة في طابعها الإمبريالي، وأشد فجاجة في ترسيخ عولمة أمريكية أحادية القطب


وتقع وثيقة إدارة ترامب في سبعين صفحة، وتعدّ الأطول، حيث تزيد عن استراتيجية أوباما بـ10 إلى 15 صفحة. وانتهى فريق ترامب من العمل عليها بشكل مبكر خلال 11 شهراً، فيما انتظرت إدارتا باراك أوباما، وقبله جورج بوش، 17 و21 شهراً لإنجاز الاستراتيجية الأولى. وقد أشرف على صوغ نص الوثيقة؛ كل من نائبة مستشار الأمن القومي دينا باول، ومديرة المكتب الاستراتيجي في مجلس الأمن القومي ناديا تشادلو، وراجعها الوزراء، وحظيت بموافقة غالبيتهم.

لخص ترامب استراتيجيته قائلا: "نحن أمام أهم ثلاثة مخاطر: جهود الصين وروسيا، والدول المارقة، إيران وكوريا الشمالية، والتنظيمات الإرهابية الدولية، الساعية للقيام بأعمال قتالية نشطة ضد الولايات المتحدة"، وتصف استراتيجية الرئيس دونالد ترامب للأمن القومي عالماً مقفلاً بالمنافسة الاقتصادية المستمرة، ولا تخصص سوى القليل من الآليات لتحقيق بعض الأمور مثل "تعزيز الديموقراطية" في الخارج. وبدلاً من ذلك، فهي تركّز على المنافسة الكبرى على السلطة، والمنافسة الاقتصادية، والأمن الداخلي. وتستند الوثيقة منهجيا، حسب وصف عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين في البيت الأبيض، بأنها جرعة من "الواقعية المبدئية" في "عالم منافس على الدوام".


النهج الواقعي لوثيقة الأمن القومي جاء عقب الرحيل المفاجئ لمستشار الأمن القومي مايكل فلين، والهزة التي ضربت لاحقاً فريق الأمن القومي، بعد صراع داخل الإدارة حول السياسة الخارجية بين هؤلاء الذين يفضلون توجهات ترامب المتطرفة، أمثال ستيف بانون وسيباستيان غوركا وستيفن ميلر، وهؤلاء الذين يفضلون التوجهات التقليدية، أمثال جيمس ماتيس وجون كيلي وريكس تيلرسون وماكماستر.

تقوم استراتيجية ترامب على أربعة محاور رئيسية؛ تستند إلى: حماية الوطن، وتعزيز الرخاء الأمريكي، والحفاظ على السلام العالمي، وتعزيز الدور الأمريكي على الساحة الدولية. وتحدد الاستراتيجية ثلاثة أنواع من التحديات؛ تتمثل في القوى الساعية لتغيير النظام العالمي، كالصين وروسيا، و"الأنظمة المارقة"، مثل كوريا الشمالية وإيران، ومجموعات "إرهابية" ناشطة؛ لأعمالها تأثير دولي، مثل تنظيم الدولة الإسلامية.

 

تقوم استراتيجية ترامب على أربعة محاور رئيسية؛ تستند إلى: حماية الوطن، وتعزيز الرخاء الأمريكي، والحفاظ على السلام العالمي، وتعزيز الدور الأمريكي على الساحة الدولية


يشير مبدأ "حماية الوطن" إلى التركيز على أمن الحدود، وإصلاح نظام الهجرة، والتعامل مع "الإرهابيين الجهاديين"، ومواجهة التهديدات في مصدرها، ونظام الدفاع الصاروخي. ويشدد مبدأ "تعزيز الثقة الأمريكية" على "إعادة تنشيط الاقتصاد لصالح العمال والشركات الأمريكية، وهو أمر ضروري لاستعادة قوتنا الوطنية"، وتطوير "مجالات البحث والتكنولوجيا والابتكار.. على أن تستخدم الولايات المتحدة هيمنتها على الطاقة، لضمان أن تظل الأسواق الدولية مفتوحة". ويتضمن مبدأ "الحفاظ على السلام من خلال القوة" - وهو شعار كلاسيكي للرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان - "إعادة بناء القوة العسكرية لضمان بقائها متفوّقة"، والحرص على "توازن القوى في المناطق الرئيسة: أوروبا والشرق الأوسط ومنطقتي المحيطين الهندي والهادي"، إلى جانب اعتماد أمريكا على تضخيم قوتها عبر حلفائها. ويؤكد مبدأ "تعزيز النفوذ الأمريكي"؛ التركيز على "نهج جديد للتنمية" التي يمكن أن تبني "شراكات مع دول متشابهة التفكير، لتعزيز اقتصادات السوق الحرة، ونمو القطاع الخاص، والاستقرار السياسي، والسلام".

رغم وصف الوثيقة من قبل مسؤولين في البيت الأبيض بالواقعية المبدئية، إلا أن نزعتها الإمبريالية الفجة بدت واضحة، وهو ما أكدت عليه الصين وروسيا، حيث نددت بكين بالوثيقة، منتقدةً "ذهنية الحرب الباردة"، كما ندد الكرملين بـ"الطابع الإمبريالي" للوثيقة واتهم واشنطن بالتمسك بـ"عالم أحادي القطب"، ففي صياغة براغماتية فجة تشبه لغة الحرب الباردة، تصف الوثيقة كلاً من روسيا والصين بأنهما "تتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأمريكية، في محاولة لتقويض الأمن والازدهار الأمريكيين"، وتشدد الوثيقة على أن البلدين "مصمّمان على جعل الاقتصادات أقل حرية وأقل عدالة"، وتتناول الوثيقة ما تسميه "الحرب الاستباقية"، وهي نقطة اتّسمت بالغموض حول كيفية معالجتها لمفهوم "الحرب الاستباقية" في أماكن مثل كوريا الشمالية وإيران.

كانت مجلة "فورين بوليسي" قد أشارت إلى أنه منذ البداية، كان شعار "أمريكا أولاً" خياراً مؤسفاً لاستراتيجية الأمن القومي. ففي بعض الأحيان، كانت الإدارة تطرحه لتبرير قراراتها في القضايا العالمية، مثل الخروج من اتفاقية "نافتا" واتفاقات باريس والاتفاق النووي، الأمر الذي دفع الكثير من المراقبين إلى القلق من أن الإدارة ملتزمة بسياسة قصيرة النظر في فهم المصالح الأمريكية، من دون أن تدرك أن تحقيق المصالح الأمريكية يكون بالمساعدة في وضع النظام العالمي، والتسويات حيث يلزم الأمر. لكن هذه الاستراتيجية سعت لتعيد تفسيرها بطريقة تجعلها أقل عرضة للرفض، حيث قدمت تصوراً يقوم على الواقعية المبدئية.

 

لم تعد مسألة نشر الديمقراطية أولوية، وهي عمليا لم تكن أولوية أمريكية تاريخيا


إذا تجاوزنا الصيغ البلاغية للاستراتيجيات الأمريكية المتعاقبة، فإن جوهر الاستراتيجية الأمريكية لم يتغير، وتبدو النزعة البراغماتية الواقعية حاضرة دوما، لكنها مع ترامب أشد فجاجة وأكثر وقاحة. إذ لم تعد مسألة نشر الديمقراطية أولوية، وهي عمليا لم تكن أولوية أمريكية تاريخيا، فقد دعمت أمريكا الدكتاتوريات حول العالم، وخصوصا منطقة الشرق الأوسط، لكن وثيقة ترامب تبعث برسالة أشد وضوحا وخالية من الغموض؛ بدعم الدكتاتوريات، وعدم الاكتراث بالديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان.

إحدى المسائل الأساسية في وثيقة الأمن القومي لإدارة ترامب؛ كانت قد ظهرت قبل الإعلان عن الوثيقة بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، حيث بلغت الوقاحة الإمبريالية حدها الأقصى. إذ تعتبر إستراتيجية ترامب للأمن القومي الأمريكي أنه "على مدار عقود كان الحديث عن أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المحور الأساسي الذي منع تحقيق السلام في المنطقة، إلا أن اليوم يتضح أن التطرف الإرهابي الإسلامي الآتي من إيران قادنا لندرك أن إسرائيل ليست مصدرا للنزاع في الشرق الأوسط، وأن دولا أظهرت إمكانيات التعاون المشترك مع إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية".

 

استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تسعى إلى الحفاظ على وضعية "الأحادية القطبية"، ولذلك فمن الضروري منع ظهور أية قوة مساوية


لا جدال في أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تسعى إلى الحفاظ على وضعية "الأحادية القطبية"، حسب ليونيد سافين، ولذلك فمن الضروري منع ظهور أية قوة مساوية، أو حتى تطمح لأن تكون على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، مثل الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا، وربما الهند. فأنصار الإمبراطورية الأمريكية يعتقدون أنه، نتيجة للحرب الباردة، لم تقتصر الولايات المتحدة على كونها القوة العظمى الوحيدة والمهيمنة، بل إنها كقوة إمبريالية، ووفقا لأندرو روس؛ الذي يعتمد مزيجا في نظريته من الواقعية الهجومية واستقرار الهيمنة، فإن آلية مراقبة النظام العالمي تتوافق مع آلية سيطرة الإمبراطورية الأمريكية، حتى أن النظام العالمي الجديد هو أمر أمريكي، وما هو جيد لأمريكا، هو جيد لجميع الآخرين، فلا يوجد خلافات خطيرة - حسب روس - بين مصالح الولايات المتحدة وبين مصالح الدول الأخرى في العالم من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية، بل يجب أن تتحول العولمة إلى نوع من الأمركة. فإدارة وتوسيع وتعزيز العولمة هو إدارة وتوسيع وتعزيز الحكم الإمبراطوري الأمريكي. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون حرة ويحق لها أن تفعل ما تريد، ولذلك فكل ما حدث بعد 9/11، من الهجوم على أفغانستان وإعلان الحرب على الإرهاب وغزو العراق، كان من أجل العالم، فالحروب الصغيرة وتصرفات الشرطة الإمبراطورية في الولايات المتحدة؛ لا تحتاج إذنا من أحد.

خلاصة القول؛ أن استراتيجية ترامب للأمن القومي لا تختلف في جوهرها عن استراتيجيات الإدارات السابقة، لكنها أكثر وقاحة في تعريف مصادر الخطر والتهديد، وأشد فجاجة في إظهار نهج إمبراطوري إمبريالي. إذ يقوم النظام العولمي الأمريكي بصورة أساسية على مبدأ تفوق القوة العسكرية، فالإمبريالية الأمريكية كقوة تسلطية عولمية عنيفة تشبه "عراب المافيا"، إلا أنها أشد قسوة وأوسع انتشارا وأبلغ أثرا، كما أنها تتمتع بالصفة القانونية وتتحكم بالسيادة الدولية والحماية الذاتية. وكما هو شأن "العراب"، بحاجة دوما إلى لصوص ومقاولين مناطقيين صغار لتحصيل الفوائد ومنع التمرد وضمان النفوذ، وفي الحالة الإمبريالية الأمريكية واسترتيجيتها الترامبية في الشرق الأوسط، فإن الدكتاتورية ضرورة حتمية. فعلى مدى عقود طويلة، تحالفت الإمبريالية الأمريكية مع القوى الدكتاتورية، وإذا كانت الإدارات الأمريكية السابقة قد تمسكت نظريا بدعم الديمقراطية، فإن إدارة ترامب تمتلك الوقاحة الكافية لتقرر التخلي عن شعار نشر الديمقراطية، وتؤكد على مساندتها صراحة للدكتاتورية. ويبدو أن إنجاز ترامب الوحيد هو مساندة المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية من خلال دعم دكتاتوريي المنطقة، بينما وثيقة ترامب للأمن القومي لن تحدث فرقا بخصوص الصين وروسيا، ولا كوريا الشمالية وإيران.

التعليقات (0)