قضايا وآراء

السيرة المحمدية ومميزاتها

عصام تليمة
1300x600
1300x600

لا شك أن ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محطة مهمة لنتنسم منها عبق الذكرى، والوصل الدائم بخير خلق الله صلى الله عليه وسلم، حبا وبركة وطاعة وتجديد عهد وحب له، وليس خير من الحديث عنه من أن نذكّر بسيرته العطرة، وأهميتها، ولقد ملأ حب النبي صلى الله عليه قلوب أتباعه، ولكن الملفت للنظر أن العجم من المسلمين خدموا سيرته خدمة كبرى، ربما فاقوا بها بعض علماء العرب، ومن هذه الكتب المهمة في السيرة كتاب ليس تفصيلا لأحداثها، بل هو عن فلسفتها وأهميتها.

 

وأهم الميزات التي انفردت بها سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، بما لم تشترك معه سيرة نبي ولا عظيم وفيلسوف، وهو كتاب بعنوان: (الرسالة المحمدية) للعالم الهندي الكبير السيد سليمان الندوي رحمه الله، ولأهمية الكتاب أقوم بعرض مختصر جدا له، ولا يغني ذلك عن قراءته. فقد امتازت السيرة النبوية بعدة ميزات، فامتازت بـ:


1ـ التاريخية: فهي سيرة تمتاز بالتاريخية والصدق؛ لأن المسلمين أمة الإسناد، فكل ما ورد عن رسولها مُحِص ودقِّق، وثبت نسبته بطرق الإثبات المعروفة عند أهل الحديث. وقد وصلت عناية المسلمين بسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم درجة فائقة لم تبلغها أمة من قبل بنبيها، في حفظ ما ورد عنه من كل صغير وكبير، والخوف من التقوُّل عليه صلى الله عليه وسلم بما لم يقل، فهم يعلمون عظم هذا الفعل، وشدة جرمه، ووخيم عقابه في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليبتوأ مقعده من النار".


وأقاموا أسسا ومنهجا دقيقا لصيانة السنة والسيرة النبوية، فاعتنوا بنقد أسانيدها ومتونها، وشرح غريب ألفاظها، وعلل الأحاديث، وتوضيح مشكلها، وجرح وتعديل رواتها، وألفت في ذلك كتب لا حصر لها. فوصلت عناية المسلمين على مر التاريخ بسنة نبيهم، وسيرته العطرة، والاهتمام بالتوثيق والتمحيص لكل ما يرد فيها درجة فائقة، مما جعل أمة الإسلام تمتاز بعلم لا يوجد في أمة أخرى من الأمم، وهو علم الجرح والتعديل، علم ليس له وظيفة غير البحث والتقصي لكل ما يرد عن الراوي من حيث صدقه وعدالته، وذكر ما به من مزايا وعيوب، تجعل المسلم يطمئن للرواية عن هذا الراوي، فرأينا علماء الجرح والتعديل يهتمون بالراوي من كل جهاته العلمية والخلقية والنفسية، وينتقلون من نقد سند الحديث، لنقد المتن نفسه، في علم كبير موسع يختص بالمسلمين وحدهم دون الأمم الأخرى.


2ـ الواقعية: وامتازت السيرة النبوية بأنها سيرة واقعية لا تحلق في أجواء الخيال، تبين أنها سيرة بشر، إلا أنه رسول مرسل من قبل الله عز وجل، ولا تعتمد على الخرافات التي وجدت في قصص النبيين السابقين، أو المجازفات التي نراها في قصص الملوك والحكام. 


3ـ الشمول: وامتازت السيرة النبوية بأنها سيرة شاملة في كل ما فيها، ولكل إنسان، على خلاف سير المرسلين السابقين، فهم في سيرتهم أسوة في العموم، ولكن لا يجد كل إنسان ما يريده في كل تفاصيل حياتهم، فمثلا لا يجد الأب الذي عنده أبناء أسوة في حياة يحيى عليه السلام، لأنه لم يتزوج ولم ينجب، ولا يجد العسكري المحارب أسوة في حياة عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يحارب قط. ولا يجد الأب الشاب في حياة إبراهيم عليه السلام أسوة؛ لأنه أنجب في الكِبَر، ولا يجد الفقير المسكين أسوة في حياة نبي الله سليمان لأنه كان ملكا نبيا، وليس كل الناس ملوك.


النبي الوحيد الذي يجد فيه كل الناس الأسوة بهذا الشمول هو محمد صلى الله عليه وسلم، فالفقير يجد في حياته صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد كان يمر الهلال والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار. والغني الشاكر يجد في حياته أسوة، فقد كان له صلى الله عليه وسلم خمس الغنائم، ومع ذلك يأبى أن يبيت في بيته درهم. والزوج الذي تزوج ببكر يجد في حياته أسوة، فقد تزوج عائشة رضي الله عنها بكرا، والذي يتزوج الثيب يجد في حياته أسوة في زواجه ببقية زوجاته، والذي تزوج بالأرملة، والمطلقة وغيرهن يجد في حياته أسوة في بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وهكذا لا يعدم كل إنسان في أي موقف في حياته ـ أيا كان الموقف ـ أن يجد كلاما للنبي صلى الله عليه وسلم، وسلوكا في حياته، إما بقول أو بفعل.


4ـ العموم: وامتازت السيرة النبوية بأنها سيرة عامة لا سرية فيها، فكل ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر وروي بكل وضوح وإعلان؛ إن أي حاكم أو زعيم أو شخصية عامة مهما كان ديمقراطيا وشفافا، وعنده من سعة الصدر، ورحابة الأفق ما يجعله يقبل كل نقد يوجه له، أو يسمح بالتدخل في حياته الخاصة، ما يجعل لكل هذا أفقا محددا، ولا يقبل أن تكون حياته الخاصة كلأ مباحا، أو عرضة للحديث، والنقد، والعتاب، أو يقبل بأن تكون حياته عامة للناس، إلا في مناطق محددة، وأمور معينة، يأبى ويرفض التعرض لها، إلا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يوجد فيها سرية، ولا كتمان لأمر من حياته، فقد عرفنا عنها كل ما فيها، بكل تفاصيلها، حتى في أكثر المواقف حرجا، فقد رأينا في السيرة وقرأنا كيف يفرح النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يغضب، ومتى تدمع عيناه. بل تحدثنا كتب السنة والسيرة عن خلافه مع زوجاته، وتخييره إياهن، وكيف كان يجامع، وكيف كان يغتسل من غسل الجنابة، وكيف وكيف.


وما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إخفائه كشفه القرآن وبينه للناس، ليكون تعليما لهم وتشريعا، ففي قصة زينب بنت جحش وطلاقها من زيد بن حارثة خير مثال: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) الأحزاب: 37، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه، فلم يعلنه الله عز وجل؟ ذلك ليعلم الناس أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته عامة للناس، لا يخفى منها شيء.


6ـ قابلة للتطبيق: فهي ليست سيرة خارقة للدرجة التي يصعب تطبيق ما فيها من مبادئ وأخلاق، بل هي سهلة يسيرة التطبيق، يملك كل إنسان أن يتخلق بها، وليس أدل على ذلك من وجود ذلك الجيل من الصحابة الذي سماه الأستاذ سيد قطب، الجيل القرآن الفريد. 


هذه بعض ما امتازت به السيرة، أردت أن أذكر بها في يوم مولده صلى الله عليه وسلم، عن طريق عرض لبعض أفكار كتاب العالم الهندي الكبير سليمان الندوي (الرسالة المحمدية)، وهو ما أنصح بقراءته، وقراءة كتاب مختصر في السيرة لأبنائنا وبناتنا في هذا الشهر الكريم، تذكيرا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

0
التعليقات (0)