كتاب عربي 21

شهداء كوميرا.. نسخة 2017

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، لقيت مواطنتان مغربيتان حتفهما جراء التدافع الذي انتهى بدهسهما في معبر باب سبتة الذي يشهد يوميا موجات "هجرة جماعية" من الأراضي المغربية باتجاه المدينة المحتلة من طرف الإسبان؛ تستغرق ساعات تكفي لحمل البضائع المهربة إلى الداخل المغربي، في مشهد تتحول فيه النسوة إلى مجرد وسائل حمل وتهريب "معيشي" يحقق لهن دخلا لإعالة أسرهن، بينما يجني المهربون الكبار الأموال الطائلة على حساب حياتهن وعلى حساب الاقتصاد المغربي. غير بعيد عن معبر الإهانة وهدر كرامة النساء المغربيات؛ منتجعات سياحية وموانئ ترفيهية يرفل فيها أبناء مغرب "آخر" في النعيم.

قبل أيام، كانت مدينة مغربية أخرى باتجاه الجنوب مسرحا لفاجعة أودت بحياة 15 امرأة دفعهن العوز والحاجة للاصطفاف في طوابير فاق عدد المشاركين فيها الألف، حسب التقديرات، للفوز بحصة من مساعدة غذائية، في حدود 15 دولارا، اعتدن الظفر بها بشكل سنوي. لم يسعفهن القدر في العودة إلى الديار بدقيق وزيت وسكر، بل محمولات في نعوش إلى المقابر، وخلفهن عشرات الأفواه الجائعة التي أصبحت دون معيل.

هن "شهيدات لا مجال للتنابذ بدمائهن التي تسائلنا جميعا"، حسب الناطق الرسمي للحكومة المغربية؛ التي لم يخلف رئيسها سعد الدين العثماني الموعد مع تدوينة تقدم من خلالها بـ"أحر التعازي وأصدق المواساة إلى العائلات المكلومة في استشهاد النساء الخمس عشرة". والواقع أن الفاجعة أبعد ما تكون عن "استشهاد"، بل قتل عن سابق إصرار وترصد؛ مرده إهمال برامج الدولة المغربية لتفعيل آليات العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الثروة المجمعة في أيدي أقلية تكاد "تستشهد" من تخمتها. فما تطلق عليه مؤسسات الدولة "إحسانا عموميا" لا يعني استقالتها من رعاية المواطنين المعوزين، أو عن أداء مهامها في التنمية الحقيقية الكفيلة وحدها بخلق الثروة أولا؛ ثم استفادة مختلف الفئات والجهات من عائداتها ثانيا.

في العام 2009، وفي السهرة الختامية لمهرجان موازين في دورته الثامنة، تدافع من نوع آخر أودى بحياة 11 شخصا حضروا لمتابعة العرض الموسيقي. ويوما فقط قبل فاجعة الصويرة، كاد ملعب الأمير مولاي عبد الله بالرباط أن يشهد مأساة حقيقية؛ نتجت عن تدافع الجماهير الحاضرة لنهاية كأس العرش، لدرجة سقوط عدد منهم على أرضية الملعب جرحى. في المغرب موتى "عوز" في طوابير المساعدات الغذائية، وموتى "تخمة" في ميادين الفرجة والاحتفال. وتلك صورة مصغرة عن واقع اجتماعي قوامه فوارق طبقية على مستوى الأفراد والجماعات.

(فيلم خيل الله – 2012) للمخرج نبيل عيوش

في إحدى جنبات الكاريان (الحي العشوائي)، الكائن بإحدى الأطراف الهامشية لمدينة الدار البيضاء، جلسة تجمع مجموعة من شباب الحي.

الشاب 1: انصتوا إليّ جيدا.. لدي مجموعة أصدقاء يؤجرون غرفة بالمدينة، وهم مستمتعون بحياتهم هناك.

الشاب 2: كلما تجاذبنا أطراف الحديث معك تحدثنا عن المدينة.. انس موضوع المدينة هذا.

الشاب 1: ما هذا الغباء.. لا يحلو العيش إلا هناك.. كل الحاجيات متوفرة.. حتى الحشيش له نكهة مختلفة هناك، والعمل متوفر بميناء المدينة على بعد خطوات.. الأمر مختلف تماما عن هؤلاء (..) الذين ما أن شيدوا مصنعا هنا حتى استقدموا العمال من المدينة، وكأننا نحن أبناء الحي مصابون بالجرب.

هؤلاء فتية يعيشون على أطراف المدينة، وهي حلم بعيد المنال. كيف الحال إذن مع أبناء القرى والمداشر النائية المحرومين من كل مظاهر الحياة المدنية، لولا مجهودات بعض من جمعيات المجتمع المدني؛ لفك العزلة عنها وانتشالها من التهميش والحصار؟

عندما ثارت مدينة الدار البيضاء في 20 حزيران/ يونيو من العام 1981 ضد غلاء الأسعار، لم يجد وزير الداخلية يومها، إدريس البصري، غير نعت القتلى بـ"شهداء كوميرا". والكوميرا هو رغيف الخبز، بعد استعانة الدولة بالجيش لاستعادة النظام على أجساد وجثث الثائرين. في الصويرة كان أمل النساء الضحايا الحصول على أرطال من الدقيق في ذكرى استقلال البلاد الستين. يحدث هذا في مغرب أطلق قمرا صناعيا إلى الفضاء قبل أسابيع، وأشار تقرير المنتدى العالمي في زيوريخ؛ إلى أن بنيته التحتية صارت بمواصفات عالمية دعامتها خطة استثمارية بمئتي مليار دولار، وهو الذي ضاعف، حسب تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، قيمة الثروة الإجمالية في "العهد الجديد".

لقد كان لجنوح الدولة إلى "مأسسة التسول" من خلال إحالة مهمة رعاية الفقراء إلى جمعيات المجتمع المدني، بل إنشاء مؤسسة كاملة باسم الملك محمد الخامس؛ مهمتها محصورة في توزيع "قفة رمضان" أمام الكاميرات، في مشاهد أقرب إلى الإذلال منه إلى الستر.. كان لكل ذلك الأثر السلبي في تحمل الحكومات المتعاقبة على تسيير الشأن العام لمسؤولياتها في هذا المجال. وبدل الانكباب على تحسين أوضاع الفئات المعوزة، تفنن مهندسو التشكيلات الحكومية في تسميات الوزرات وربطها بالجانب الاجتماعي، كالحديث عن وزارات الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، وأخرى للاقتصاد الاجتماعي، وثالثة للتنمية المستدامة، ورابعة للتنمية القروية.. وهلم جرا من تسميات ووزارات. لكن حكومة يحتاج فيها تغيير وزراء أقالهم الملك لأسابيع لا يملك أحد موعدا لتعدادها؛ أوهن من أن تقدم برامج فعالة وذات مردودية على الوطن ومواطنيه. وربما في ذلك إجابة واضحة على أسباب ضعف ومحدودية النموذج التنموي المغربي، وعدم قدرته على الوصول إلى كل الفئات، كما أقر بذلك العاهل المغربي في إحدى خطبه الأخيرة، بالرغم مما يتم تسطيره من "برامج" كان الأمل معقودا على أن تترجم واقعيا من خلال "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" التي سوقت لها الدولة لسنوات قبل أن يثبت فشلها.

المقاربة الإحسانية، بالرغم من أهميتها، لم تكن يوما بديلا على مأسسة الدعم العمومي للفئات الأكثر هشاشة، سواء بشكل مباشر أو عن طريق مشاريع مدرة للدخل. والفشل المتراكم في هذا الميدان بوابة مفتوحة على القلاقل واللا استقرار.

في فيلم "خيل الله" للمخرج نبيل عيوش، تسير مركبة تقل شباب الحي العشوائي (حميد، طارق، نبيل وفؤاد) منطلقة من الكاريان باتجاه مدينة الدار البيضاء. داخل المدينة يفاجأ الأربعة بمعالمها وبشكل الحياة بها.

سائق المركبة: انظروا! فيلات وشركات.. خادمات وسيارات وملابس مستوردة من خارج البلاد.. من أين لهم هذا؟ إنهم يسرقون ثروات الشعب.. يسطون على عرقك وجهدك أنت وذاك وأنا.. لكن كل ما يكنزونه في الدنيا يتحول حطبا لجهنم حيث سيحرقون، أما نحن فأبواب الجنة لنا ستكون مشرعة..

كان الشباب الأربعة في طريقهم لتنفيذ عمليات انتحارية ظهرت شرارتها من أعلى ربوة بالحي العشوائي المطل على المدينة، حيث يداعب أطفال صغار كرة قدم، كما كان يفعل الأربعة بالضبط سنوات قليلة قبل ذلك التاريخ؛ تحولوا بعده وقودا لتفجيرات هزت الدار البيضاء في السادس عشر من شهر أيار/ مايو 2003..

وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين..
التعليقات (0)

خبر عاجل