كتاب عربي 21

العالم أكبر من خمسة

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

ظل هذا الشعار يتردد على لسان "أردوغان - تركيا" (باعتباره شعارا لبقية الدول من غير تلك التي تتحكم في مجلس الأمن)، وفي ندوة حضرتها وأسهمت فيها ببحث حول مقصد حفظ العمران والحكم الراشد بجامعة "ابن خلدون التركية"، تلك الجامعة الفتية التي أدارت مؤتمرا حول "الدين والحضارة".. المؤتمر كبير ومتميز، أسهمت فيه أيضا مؤسسة الفرقان للتراث، والتي أخذت على عاتقها تأسيس منظور المقاصد برؤية كونية وعمرانية؛ تؤكد على حقائق الفاعلية والعدل والرشد الذي يجب أن تسود تجلياتها "سفينة الأرض" المعمورة بكل ما يعتمل فيها من أحداث ومواقف وما تتفاعل فيها من دول ومؤسسات.

 

"الخمسة الكبار" ليس إلا مجلسا يقوم على إدارة
العالم على نحو استبدادي يحقق مصالح هذه الدول

.. لفت نظري هذا الشعار الذي تردده تركيا ضمن مناداتها لعملية إصلاح كبرى للتنظيم الدولي الممثل في "منظمة الأمم المتحدة"، عن طريق إصلاح النظام الدولي في كل بنياته وسياساته وتكويناته؛ التي تؤشر من كل طريق على صياغة منظومة دولية غير تلك المشوشة والمشوهة التي تفتقر إلى أصول العدل والرشد فيما يتعلق بممارسات كثيرة وخطيرة تشمل أرجاء المعمورة، وتؤكد أن تلك الإنسانية والدول التي تتحكم فيها من خلال من أُسموا بـ"الخمسة الكبار"؛ ليس إلا مجلسا يقوم على إدارة العالم على نحو استبدادي يحقق مصالح هذه الدول، لا يتعداها ولا يتخطاها وفي تواطؤ رهيب، فإن هذه الدول الخمس تحفظ حالة من التوازن قد لا ترفع ظلما وتكرس أوضاعا مشوهة، بل وتشهد المعمورة أحداثا لا تصدق، من القتل بالجملة وتدمير كل عمران، واستهداف كل كيان أو إنسان.

 
ما بالنا في هذه الأيام نترحم على سايكس بيكو
(1916) وقد مر عليها قرن كامل من الزمان؟


بدا كل هذا يتجسد في مظالم عدة، حتى يمكننا أن نخطط خريطة للمظالم العالمية تتخذ ألوانا عدة، يسودها اللون الأحمر واللون الأسود. أما ذلك اللون الأحمر فإنه يشير إلى تلك الخطوط والحدود التي تواطأ عليها هؤلاء الكبار، وتستحق أن تسمى حدود الدم والقمع والتهجير القسري والتفريغ السكاني.. فما بالنا في هذه الأيام نترحم على سايكس بيكو (1916) وقد مر عليها قرن كامل من الزمان؟ فالدول المستعمرة آنذاك قد خططت كل تلك الحدود على خرائط صماء، لا تقيم أي اعتبار للإنسان والمكان، ولا التاريخ والزمان، ولكنها حدود المصالح. أما أن تتحول الحدود إلى حدود دماء، فذلك الخطر الكبير والمشهد المثير في ساحتي العلاقات الدولية والنظام الدولي.

 

دماء سالت وأريقت بغير جريرة ارتكبتها دول بتواطؤ من دول
تتحرك ضمن سياق مصالحها الأنانية بما تسميها القومية

هذا اللون الأحمر الذي يشير إلى دماء سالت وأريقت بغير جريرة ارتكبتها دول بتواطؤ من دول تتحرك ضمن سياق مصالحها الأنانية بما تسميها القومية، كان يعبّر عن درجة من الظلم العظيم، ولكنه أيضا كان يشير إلى حالة من الاستخفاف المقيم الذي يستهين بالنفس البشرية والكرامة الإنسانية. هكذا تكونت حدود الدم ضمن تصورات لفك وتركيب المنطقة بالحديد والنار، وبراميل متفجرة وإذكاء حروب أهلية مستعرة، وانقلابات عسكرية قامت وأخرى ستقوم، وتبدلات طالت حتى خرائط تحديد الأعداء والخصوم.. وترى المتصهينة العرب يهرولون إلى موائد تطبيعهم بلا خجل أو حياء، ولكنهم يتسابقون على الكيان الصهيوني حتى يعطيهم جواز مرور إلى تلك الحضارة الغربية؛ حينما تتواطأ مع العدو الاستيطاني والمستبد الغاصب لحراسة الأمر الواقع الذي يحفظ لها مصالحها، ويؤكد على التبعية المهينة لحضارتها وغلبتها.

هل رأيتم تلك الحدود الظالمة التي تتحرك على أرض المنطقة، وتقسمها من دون أي اعتبار، وتستدعي كل ما يؤدي إلى الفرقة والتجزئة؛ فرقة البشر وتجزئة المكان، وترسيخ قاعدة التبعية لخارج لا يرحم، ولكنه فقط الباحث عن مصالحه؛ غير مكترث لا بأنظمة ديمقراطية يمكن أن تحكم هذه البلاد، ولا بحكم راشد يمكن أن ينهض بها؟! إنه لا يكترث بأي من ذلك، فتضيع الأرض بين استبداد مقيم، واستعمار جديد لئيم، وتبدو في النهاية حدود الدماء ليُقضى من يُقضى، ويُطرد من يُطرد، ويُدفع من يُدفع؛ في عملية تهجير جماعي.. ليبقى المستبد وتبقى مصالح المستعمر، ولتذهب الشعوب إلى الجحيم.

توأد كل أحلام التغيير وآماله؛ بعمل ممنهج يتواطأ فيه كل هؤلاء على حراسة التخلف والفساد والاستبداد، من دون أي اعتبار لضرورات الناس وتحقيق كل ما يتعلق بعيشهم الكريم. لم تكن تلك الخطوط الحمراء التي سادت حدود التشوه في السياسة الدولية؛ إلا علامة على مواقف سوداء تعبر عن حالة ظلم تؤكد أن بعضا من هؤلاء الذين أصابتهم غطرسة القوة لم يكن لهم من سياسيات واستراتيجيات إلا أن يؤكدوا على مسيرتهم كحفاري قبور، كما أشار إلى ذلك المفكر روجيه جارودي في كتابه المهم، والذي صدره بكلام عن شباب قد تبدد حلمه يكتب على قمصانه: "ليس لنا من مستقبل".

 

توأد كل أحلام التغيير وآماله؛ بعمل ممنهج يتواطأ فيه
كل هؤلاء على حراسة التخلف والفساد والاستبداد

هل يمكن أن تستمر تلك المعادلات المشوهة والظالمة؟ وتبقى تلك العلاقات والبنيات التي يتعانق فيها استبداد دولي مع أنظمة استبداد داخلي، فتحرس تخلف هذه البلاد ولا تحدث من تقدم؟ الأمر المؤكد أننا لا ننزلق بأي حال إلى نظرية في المؤامرة، ولكننا نؤكد من طريق آخر على تلك القابلية للاستعمار والاستبداد التي خلقت بؤرا لغطرسة القوة، واستحكمت حلقاتها في شكل إبادات إنسانية وبشرية، وعمليات تهجير قسرية، وصناعة حروب أهلية، ودعم انقلابات عسكرية.. لا يمكن بأي حال بعد ذلك أن نتحدث عن بعض المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان المهدور دمه والمستباحة كرامته..

إنها القضية الكبرى التي يؤكدها ذلك الشعار "العالم أكبر من خمسة". فهل آن الآوان لأن يوقف سيل الدماء وفيضانات القتل المتعمد بكل أنواع السلاح التي لا تقيم وزنا لروح الإنسان، ضمن أداءات عشوائية تستهدف القتل والتدمير؟ ما تلك الحضارة التي تدمر ثم تعمر؟! فلماذا لا تقيم تلك الحضارة كل شأنها في تراكم تعمير بعد تعمير وإحسان بعد تثمير؟! فهل قُضي على تلك الجغرافيا أن تدمر ثم بعد ذلك نطالب بالتعمير؟ تعمير زائف لا يتم ولا يأتي، وتدمير ناجز بكل أسلحة فتاكة لا تقيم للعمران وزنا ولا للإنسان قيمة.

 

لا يفترض في خمس دول تملك السلاح أن تتحرك في العالم ملوّحة بقواعد عسكرية هنا أو هناك، وأعمال عسكرية تتحدث فيها عن إرهاب

نعم.. العالم أكبر من خمسة، فلا يفترض في خمس دول تملك وتحوز السلاح أن تتحرك في العالم ملوّحة بقواعد عسكرية هنا أو هناك، وأعمال عسكرية تتحدث فيها عن إرهاب، وتصنع في كل مكان في الدنيا قنابل موقوتة وأسلحة مفخخة، وتصنع أدمغة متفجرة. هذه هي الحقيقة التي تجعل من الإفقار قنبلة عالمية موقوتة تتفجر في مشاهد عنف مصنوعة، وفي كل مرة سنتحدث عن مكافحة الإرهاب.. الإرهاب يا سادة لا ينقضي إلا بعدل، والعدل لا يقام إلا بعمران، والعمران لا يؤسس على ظلم أو على غطرسة قوة أو على توازن رعب. ليس هذا بأمان العمران والإنسان.. ألا يستحق كل ذلك أن نهتف مع من يؤسس لشعار "العالم أكبر من خمسة"؟ الظلم لا تحتمله البقية، والعدل يقام حينما تتعارف كل البشرية، ويقام على قاعدة منها عمران الإنسانية، ليس بالاستئصال أو الاحتكار أو الأنانية، ولكنه تشييد لمجتمع يسع الجميع بمنافعهم ومصالحهم المشتركة والتبادلية. فالأرض تسع الجميع، وسفينة الأرض لا تنقذ إلا باجتماع أهلها.. "العالم أكبر من خمسة".

التعليقات (0)