قضايا وآراء

الدول الصغيرة بين بناء الذات والبحث عن النفوذ

أحمد الشيبة النعيمي
1300x600
1300x600
تمتلك بعض الدول الصغيرة نفوذاً يفوق حجمها الجغرافي بفعل الطفرات الاقتصادية في عصر العولمة وبفعل الطموح الموجه مخابراتياً من دول الهيمنة التي توظف هذا الطموح بذكاء لخدمة أجندتها ومصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية.

 وهذا النفوذ في حقيقته يدور في فلك الأقطاب الدولية الكبرى أو قطب واحد يتحكم بالدورة الاقتصادية ويرسم خارطة الأدوار السياسية ويوظف القدرات المالية في خدمة أجندته بصورة مجانية.

وإذا حاولت الدولة الصغيرة الخروج عن الدائرة المرسومة لها واجهت الإهمال والتهميش أو الغرق والضياع في صراعات عبثية.

 وقد يتكالب عليها الحاسدون والخصوم ويوظفون قدراتها في سبيل إنهاكها وعزلها، وهو المصير الحتمي لأي دولة صغيرة تستدرجها الدول الكبرى للدخول في صراعات أكبر من حجمها لتستنزف مقدراتها المالية في شراء الأسلحة ووسائل الحماية بعد أن تصنع له الكثير من الخصوم والمتربصين بضعفها، وتصبح في حالة خوف و استسلام كامل للدول الكبرى.

إن القوة الحقيقة لأي دولة صغيرة تتحقق بالحرص على التحالف والتكامل مع الدول الصغيرة الأخرى وليس بالدوران في فلك الدول الكبرى.

وتتحقق أيضا بالإصلاح السياسي الداخلي واستكمال مؤسسات الحكم الرشيد والشفافية والمؤسسات الدستورية الرقابية والتشريعية المنتخبة و تعزيز المشاركة السياسية والمواطنة المتساوية وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وتعزيز ثقافة الحقوق والحريات.

و بدون معايير القوة الحقيقية للدول الصغيرة فإن القفز إلى تنفيذ ألاعيب كبيرة تفوق حجم الدولة الصغيرة لن تنجح في الحفاظ على توازن القوى.

وستجد هذه الدول نفسها مضطرة إلى الارتهان إلى دولة كبرى تنفذ أجندتها على حساب مصلحتها الإستراتيجية.

كما ستجد نفسها محاطة بتهديدات أمنية خطيرة تدفعها إلى تكديس السلاح بصورة جنونية. وفي جميع الأحوال فإن بائع السلاح هو المستفيد الحقيقي، وهو الموجه الحقيقي لسياسة هذه الدول والمحدد لأدوارها ولهذا تتسابق الدول الصغيرة لنيل رضاه وتقديم خدماتها السرية والعلنية لأجندته .

وتزداد خطورة النفوذ الذي تلعبه الدول الصغيرة حين يتصادم مع حركة التاريخ و مصالح الشعوب في تعزيز الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد.

 فسرعان ما يتحول هذا النفوذ إلى عبء كبير على الرعاة الدوليين فيبحثون عن لعبة أخرى بعد استنفاد أدوات اللعبة الأولى وتصبح الدول الصغيرة ضحية أي تغير في المصالح والعلاقات الإقليمية والدولية فضلاً عن أي تغيرات قد تفجرها موجات احتجاجية وثورات شعبية في دول الإقليم بعد استنفاذ الثورات المضادة لجميع أدوات الاحتواء والقمع.

وفي المستقبل القريب سيتكشف للجميع أن الدول الصغيرة ذات الثروات الاقتصادية في عالمنا العربي بددت طاقاتها في سبيل البحث عن نفوذ أكبر من حجمها في الوقت الذي لا تستطيع فيه أن تقف على قدميها باستقلالية وقدرات ذاتية، ولكنها تعتمد اعتماداً كلياً على الثروة الاقتصادية والاحتماء بدولة كبرى.

ولو تأملت هذه الدول في التجربة اليابانية وتجربة نمور أسيا لوجدت نماذجا جيدة للدول الصغيرة الناجحة التي لم تنهمك في البحث عن النفوذ بقدر انهماكها أولاً في بناء قدراتها الذاتية.

فالتجربة اليابانية اعتمدت على قدرتها الاقتصادية والتكنولوجيّة كي تغدو دولة كبيرة رغم صغر مساحتها وضعفها العسكري بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية. وكذلك التجربة السنغافورية وبعض التجارب الأوربية كالسويد والنرويج وغيرها.

وعلى ذلك فإن على الدول الصغيرة أن تعمل أولاً على التحول إلى دول كبيرة قبل البحث عن أدوار أكبر من طاقاتها تستنزفها وتورطها في معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل. 

والواقع يؤكد أنه في مقدور الدور الصغيرة التحول إلى دول كبيرة رغم صغر مساحاتها الجغرافية لو سخرت جميع طاقاتها في التنمية البشرية والاقتصادية، ولو أنفقت هذه الدول المليارات التي تنفقها في البحث عن النفوذ في مجالات تعمل على تنمية قوتها .

ومن أهم عوامل قوة الدول الصغيرة في عالمنا العربي والإسلامي هو العمل بجدية على تحقيق الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي والتعليمي، وتبني برنامج إصلاحات شاملة، وبناء علاقات تكاملية مع الدول الصغيرة الأخرى وجميع الدول الاسلامية، وبناء علاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل والندية والمصالح المشتركة لا على الاستغلال والابتزاز.

 وبدون إصلاحات سياسية ستظل دولنا الصغيرة قابلة للابتزاز والاستغلال من قبل الدول الكبرى في سبيل خدمة مشاريع لا علاقة لها بمصالحها الإستراتجية ولا تعمل على تعزيز قوتها الذاتية. وخلاصة الأمر إن دولنا الصغيرة اليوم بين خيارين: خيار العمل على التحول إلى دول كبيرة أو خيار البحث عن نفوذ يخدم أجندة الدول الكبيرة.
0
التعليقات (0)