كتاب عربي 21

استراتيجية ترامب الانتهازية تجاه إيران

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
لا جدال أن سياسات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة تنطوي على قصور وثغرات واضحة للعيان، ذلك أن الأهداف الكبرى بالحفاظ على أمن "إسرائيل" وضمان إمدادات "النفط" وحرب "الإرهاب"ورعاية الأنظمة "الاستبدادية" الموالية باتت مكلفة وتتطلب تخصيص موارد كبيرة، وإذا كان الرئيس السابق باراك أوباما قد عمل على التخلي جزئيا عن الاهتمام بالمنطقة  وفق مبدأ "إعادة التوازن الاستراتيجي" للتفرغ لنمط المخاطر الجديدة المتمثلة بصعود قوى منافسة كالصين والاقتراب من إيران من خلال انجاز صفقة "البرنامج النووي"، فإن الرئيس دونالد ترامب عمل منذ حملته الانتخابية على تقويض سياسة أوباما والعودة إلى السياسة الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط.

 بات جليا خلال سنوات أوباما الأخيرة أن الولايات المتحدة تتوافر على طائفة من السياسات المتبعة في الشرق الأوسط، لكنها تفتقر إلى لُحمة استراتيجية ملموسة، الأمر الذي أثار قلق حلفاء واشطن في المنطقة، ولم يكن غريبا احتفاء هذه الدول بمجيء ترامب وغبطتهم وتنفسهم الصعداء، نظرا لدعمه المطلق للدكتاتوريات المحلية وتعزيزه للأوضاع القائمة تحت ذريعة "عقيدة الاستقرار" المفضلة تاريخيا، رغم أن خشية بعض الأنظمة عالميا من أن سياسة ترامب محفوفة بالمخاطر وتنطوي على تشجيع النزاعات العسكرية والصراعات.

منذ وصوله إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض شدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنه بصدد بناء استراتيجية للتصدي لإيران، وقد أدلى بتصريحات مثيرة وتغريدات مخيفة، وعقب طول انتظار أعلن مساء الجمعة الماضي 13 تشرين أول/ أكتوبر 2017 عن استراتيجيته الجديدة فيما يتعلق بإيران والملف النووي لطهران، لافتا إلى أن هناك عدد من الإجراءات التي ستتخذها إدارته تجاه إبران، لكن الاستراتيجية الجديدة تتسم الانتهازية والابتزاز وتتموضع في التخوم الوسطى وفق المبادئ التجارية وتفتقر إلى الأدوات التنفيذية، فهي استراتيجية ضغوطات على الحلفاء قبل إيران، ورغم حديث ترامب العدائي المكرور تجاه إيران وتأكيده أن استراتيجيته تهدف إلى منع إيران من الحصول على السلاح النووي ودعم الإرهاب وزعزعة الشرق الأوسط، فإن تحقيق تلك الأهداف يتطلب شيئا يتجاوز  التهديد والثرثرة.

الاستراتيجية الجديدة للرئيس ترامب تستند إلى مطالبة الحلفاء بالانخراط في استراتيجية اختلافية، فحسب ترامب، فإن الوقت حان "لكي ينضم إلينا العالم بأسره في مطالبة الحكومة الإيرانية بإنهاء سعيها إلى الموت والدمار"، الأمر الذي لم يوافق عليه حلفاء أمريكا الكبار ممن وقعوا على "الاتفاق النووي"، فادعاء البيت الأبيض أن استراتيجية ترامب التي أنجزت بالتشاور مع فريقه للأمن القومي "بعد تسعة أشهر من المداولات مع الكونغرس وحلفائنا حول كيفية حماية الأمن الأمريكي على أفضل وجه" ليس صحيحا، إذ لم يرحب بهذه الاستراتيجية سوى بعض دول المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل والسعودية.

تتضمن الاستراتيجية الجديدة، حسب بيان البيت الأبيض، على مجموعة عناصر أساسية هي:تحييد التأثير "المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولاسيما دعمها للإرهاب والمسلحين"، وإعادة تنشيط التحالفات الأمريكية التقليدية والشراكات الإقليمية كـ "مصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة"، وحرمان النظام الإيراني، ولاسيما الحرس الثوري، من تمويل "أنشطته الخبيثة" ومعارضة أنشطة الحرس الثوري "الذي يبدد ثروة الشعب الإيراني"، ومواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة "الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري" لحقوق الإنسان، و"احتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة"، وحرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.

تستند الولايات المتحدة في تدشين الاستراتيجية الجديدة إلى مبررات وذرائع  عدة، فبحسب البيت الأبيض، إن حكومة طهران تشكل تهديدات للمصالح الأمريكية وللاستقرار الإقليمي، ومن بين أبرز هذه التهديدات: السلوك المتهور للنظام الإيراني، ولاسيما الحرس الثوري، واستغلال النظام الإيراني الصراعات الإقليمية لتوسيع نفوذه الإقليمي "بالقوة وتهديد جيرانها"، وتطوير الصواريخ الباليستية وانتشارها، والدعم المادي والمالي لـ"الإرهاب والتطرف"، ودعم "الفظائع التي يرتكبها نظام الأسد ضد الشعب السوري"، والعداء تجاه إسرائيل، والتهديد "المستمر" لحرية الملاحة البحرية ولاسيما في الخليج، والهجمات الإلكترونية ضد الولايات المتحدة وحلفاءها.

في سياق خلفيات ودوافع الاستراتيجية الجديدة، حسب البيت الأبيض، أن "سياسة الولايات المتحدة على مدى العقد ونصف العقد الماضي أعطت الأولوية للتهديد المباشر من الحركات المتطرفة السنية على حساب التهديد الطويل الأمد الذي تمثله الأعمال المسلحة التي تدعمها إيران"، كما أن طهران سارعت في الآونة الأخيرة إلى تزويد "شبكات إرهابية" بأسلحة مدمرة بشكل متزايد "أثناء محاولتها إنشاء جسر إلى لبنان وسوريا"، على أمل "السيطرة على الشرق الأوسط الكبير، وقد وطلب الرئيس ترامب من وزارة الخزانة فرض عقوبات على الحرس الثوري الإيراني الذي تعتبره الاستراتيجية الجديدة "الأداة الرئيسية التي استخدمها المرشد الأعلى خامنئي وسلاحه في إعادة تشكيل إيران كدولة مارقة".

إذا تجاوزنا العبارات المنمقة لاستراتيجية ترامب الجديدة تجاه إيران، فإنها عمليا يجب أن تحصل على موافقة الكونغرس لتمريرها كقانون لتشديد شروط الاتفاق، وعلى الحلفاء الأوروبيين أن يغيروا رأيهم، وعلى إيران أن ترضخ، وهي أمور صعبة التحقيق، وستضع أمريكا في حالة من العزلة من قبل حلفائها ممن يصرون على الالتزام ببنود الاتفاق النووي، وبهذا، فإن مسارات استراتيجية  ترامب تنطوي على مزيج من الخطورة والانتهازية والابتزاز سوف تطال الحلفاء قبل إيران، ويبدو أن ترامب يقامر من أجل تحصيل صفقات وأموال لم تتحقق لأمريكا من الاتفاق وذهبت إلى حلفائه من الدول الأوروبية وغيرهم. 

على مدى عقود عملت أمريكا على تقويض وإضعاف إيران من خلال حلفائها الإقليميين، ومارست ضغوطات وفرضت عقوبات، إلا أنها لم تفكر في خيار الحرب المباشرة، وهي لا تزال تمارس ذات الأدوار. ففي معرض الرد على سؤال حول خيار الحرب خلال مؤتمر صحفي عقب إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، قال وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس: "لا، أعني أنه وبداية الأمر سنعمل مع حلفائنا لنتأكد من أننا نتشارك الوعي ذاته حول الوضع، وهذا أهم شيء في الوقت الحالي، سنقوم بمشاركة المعلومات مع الحلفاء"، وتابع الوزير الأمريكي مؤكدا على أن إيران ستتحمل المسؤولية إن "أقدمت على أي عمل إجرامي يخرق القانون الدولي"، في حين أشار إلى عدم توقعه إقدام الإيرانيين على اتخاذ أي إجراء انتقامي ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم إن فعلوا ذلك "سيكونون قد تلقوا نصيحة خاطئة".

لا شك أن استراتيجية ترامب تتماهى مع الطرح الإسرائيلي، فقد عكفت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة، في إطار بحثها عن حل إقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حشد جبهة موحدة تضم إسرائيل والقوى العربية السنية في وجه إيران عدو واشنطن اللدود، الأمر الذي دفع بنيامين نتنياهو إلى تقديم اقتراح بـتبني "مقاربة إقليمية" لإنهاء صراع الشرق الأوسط، حيث أشاد بما وصفها "فرصة غير مسبوقة تتمثل في تخلي بعض الدول العربية عن اعتبار إسرائيل عدوا، بل صارت ترى فيها حليفا في مواجهة إيران و"داعش"، القوتين التوأمين في الإسلام /المتطرف/ واللتين تهددان الجميع".

لعل السؤال الأهم في سياق الإعلان عن استراتيجية ترامب الجديدة تجاه إيران يتمثل في كيفية التعامل مع تعقيدات المشهد الجديد التي ساهمت أمريكا في صنعه، ذلك أن السياسة البراغماتية الأمريكية ساهمت بطرائق عديدة في تحويل إيران إلى قوة إقليمية رئيسية، عندما تعاونت مع إيران تحت شعارات أولوية "حرب الإرهاب" والأمر الذي أدى إلى تخلص إيران من أهم عدوين عبر إسقاط نظام طالبان في أفغانستان 2001 ونظام صدام حسين في العراق 2003، وانتهت المغامرة بخسارة أمريكية باهظة وباتت العراق في قبضة إيران وأصبحت طالبان حليفة طهران.

إن خيارات إدارة الرئيس ترامب تجاه إيران محدودة، فهي تحتاج إلى دعم دولي، وبناء تحالفات قوية في المنطقة برهنت الأحداث على أن هؤلاء الحلفاء في حالة من الضعف وفقدان الشرعية والتخبط، كما برهنت انشغالات الولايات المتحدة بمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا أن إيران استثمرت حالة الفوضى والاضطراب التي عصفت بالمنطقة وأدت إلى ضعف الحكومات المركزية في بغداد ودمشق لتقوية نفوذها وفرض تصوراتها من خلال بناء مليشيات مسلحة عابرة للحدود تعمل تحت إمرة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني الذي بات يدير حروب إيران الخارجية في سوريا والعراق، وأدت التحولات التي عصفت في المنطقة على مدى أكثر من 6 سنوات إلى تغيرات في بنية المشروع الإيراني وطموحاته الإقليمية، وبات يطمح إلى تحقيق خطة طموحة تهدف إلى خلق ممر بري يصل إيران بشواطئ البحر المتوسط مرورا بالعراق وسوريا لتعزيز نفوذ طهران في المنطقة، وهو مشروع إيراني وضع منذ أكثر من ثلاثة عقود لكنه واجه صعوبات نظرية وعملية عديدة، ورغم أن استراتيجية إيران الناشئة حديثاً في بلاد الشام طموحة إلا أنها تقع في إطار استراتيجية أكبر تأمل طهران من خلالها إلى تحقيق هيمنة إقليمية أوسع على المدى الطويل. وبهذا، فإن الخطة المرحلية الإيرانية تهدف إلى تحقيق هيمنة مستدامة في العراق وسوريا ولبنان، ومزيد من النفوذ في الخليج، وهو أمر لم يكن ممكنا دون وجود تخبط أمريكي وغياب رؤية استراتيجية. 

خلاصة القول، إن استراتيجية ترامب الجديدة تجاه إيران تتموضع في إطار سياسة انتهازية مزدوجة تهدف إلى ابتزاز إيران والحلفاء معا لتحصيل صفقة أفضل تجلب مزيد من المنافع دون تكاليف كبيرة، وتفتقر إلى إجراءات محددة وفعالة، وهي استراتيجية تسعى إلى خلق حالة من استدامة النزاعات والصراعات في المنطقة، ذلك أن التموضع الأمريكي في فضاء جيوسياسي ممتد من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق ينطوي على هشاشة واضحة، ويقتصر على قواعد صغيرة وقوات محدودة غير مستدامة، في الوقت الذي بات هذا الفضاء يشهد هيمنة إيرانية جلية في ظل ضعف بنية الدولة وقوة المليشيات، وإذا كان حلفاء أمريكا من الأوروبيين غير معنيين بمواجهة إيران، فإن حلفاء أمريكا من المحليين في المنطقة أعجز عن إدارة حروب الوكالة، وسوف يؤدي بناء تحالف بين إسرائيل ودول المنطقة إلى نتائج تضمن لإيران ليس سيطرة ميدانية فحسب بل هيمنة سياسية، وهكذا، فإن الاستراتيجية الأمريكية الجديد تجاه إيران ليست انتهازية فقط، وإنما تخريبية بامتياز لاستدامة حالة النزاع الصراع والحرب.
التعليقات (0)