كتاب عربي 21

ما بين "كتالونيا" و"جنوب السودان"!

سليم عزوز
1300x600
1300x600
لك أن تتخيل أن ما فعلته الحكومة الإسبانية، فعلته الحكومة السودانية، في مواجهة الدعوة للانفصال، الذي وقع بالاستفتاء الذي أقره الجنوبيون، وتكلل بانفصالهم فعلاً وإقامة دولتهم المستقلة!

في الأزمة السودانية، كان الغرب يؤيد حق "أهل الجنوب" في تقرير المصير، باعتبار أن حق الانفصال، وإنشاء الجنوبيين لدولتهم الخاصة بهم، هو من الحقوق اللصيقة بالإنسان، التي لا يجوز لسلطة أن تتدخل فيها بالمنع أو أن تفرض وحدة على غير رغبة الانفصاليين، ولا شك أن تمرير الانفصال الجنوبي بحماية غربية، جعل كثيرين في المنطقة يضعون أيديهم على قلوبهم، مخافة انتقال العدوى إلى دول الجوار، ومنها إلى المنطقة العربية، ومع بداية الألفية الجديدة، بدا الاتجاه المعلن هو تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، فحدود سايكس بيكو، التي قسمت المنطقة، بدا أنها مرحلة أولى، والجديد، هو انطلاق مخطط التقسيم، الذي قيل أنه سيبدأ من العراق، لتكون مصر هى الجائزة الكبرى!

وإذ جرى في العراق الاستفتاء على انفصال كردستان، فإن وقوف دول مهمة في المنطقة كتركيا وإيران ضد هذا التقسيم، دفع بالجانب الأمريكي إلى إعلان رفضه لهذا الاستفتاء (مجبر أخاك لا بطل)، وهو ما نال من فكرة "الحق في الانفصال التي يُروج له غربياً، لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت، وسبق انتقال فكرة الانفصال إلى الغرب ذاته، فأقاليم في بريطانيا، بدت تفكر جدياً في الانفصال عن المملكة العجوز، ثم كان المثال الأكثر وضوحاً تمثله مقاطعة "كتالونيا"، على نحو يصلح معه استدعاء مقولة: "من حفر لأخيه حفرة وقع فيها".

"كتالونيا" لم تكن جزءاً من المملكة الإسبانية، لكنها ضمت إليها بالقوة، في سنة 1479 ومنذ هذا التاريخ المبكر و"أهل كتالونيا"، يطالبون بالانفصال، والانفصاليون – ويمثلون الأغلبية – هم ضد أن يقال عنهم أنهم "إسبان"، ولم يكن الاستفتاء الحالي هو الأول من نوعه، فقد سبقه عدة استفتاءات، للانفصال، أو للاستقلال، كان آخرها في نوفمبر 2014، لكن المحكمة العليا الإسبانية أبطلته.

وإزاء الدعوة الموضوعية للانفصال، تنازلت الحكومة الإسبانية، بأن أقرت الحكم الذاتي لمقاطعاتها ومن بينها "كتالونيا"، التي صار لها علم خاص، ونشيد وطني، وبرلمان مستقل يتألف من 135 نائباً. والذي يدفعنا لوصف مطالب القوم بـ "الموضوعية"، أنه فضلاً عن رغبة الأغلبية الكتالونية في الانفصال، وفصلاً عن أن "كتالونيا" لم تكن ضيعة من ضياع المملكة الإسبانية، فإن للكتالونيين لغتهم الرسمية بجانب اللغة الإسبانية!

واللافت، أن الحكومة الإسبانية، لم يتوقف رد فعلها، على رفض قرار حكومة "كتالونيا" وبرلمان المقاطعة على الاستفتاء، وإنما أرسلت برجال أمنها للحيلولة دون ذلك بالقوة، ونقلت الفضائيات صورة رجال الأمن وهم يصادرون صناديق الاستفتاء ويعتدون على الكتالونيين، ولو كان ما جرى إجراء عربي أقدمت عليه حكومة السودان مثلاً، لكان للاتحاد الأوربي، وللبيت الأبيض، موقفاً آخراً، ولأعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن شعوره بالقلق!

بيد أن العالم الغربي لم يتنكر لمبدأ الحق في تقرير المصير، مجاملة للحكومة الإسبانية، ولكن لأن بضاعة الانفصال صارت رائجة، على نحو صارت تهدد تماسك الغرب ذاته، وكان الاستفتاء البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوربي، هو البداية، وبشكل يهدد البنيان التقليدي لكثير من هذه الدول، ولا يوجد ما يمنع من انتقاله إلى عقر البيت الأمريكي ذاته، وهو ما يعطل الحلقة الثانية من مهام القوى الاستعمارية، الذي بدأ بالتقسيم وحدود سايس بيكو، ويراد الانتقال إلى تجزئة الدول الحالية، إلى أجزاء صغيرة، عبر الوكلاء المحليين في المستعمرات القديمة، ولا يغيب عن الأذهان أن من أهداف الغزو الأمريكي للعراق، كان تفتيته، لكن السلطة البديلة، لم يكن لها أن تقدم على التسليم بانفصال كردستان، دون رغبة "الولي الفقيه" في قم، وهذا تطور مهم في مواجهة مخطط تفتيت المنطقة.

ولا يمثل الموقف من رفض الاستفتاء الكردستاني، قيمة، وإن كانت الولايات المتحدة إلى جانب الرافضين للاستفتاء، فالقيمة الحقيقة تتمثل في تدخل الحكومة الإسبانية على هذا النحو المتعسف ضد الاستفتاء الكتالوني، بجانب الصمت الغربي على هذه الإجراءات، فهذا يمهد لسقوط مخطط تقسيم المنطقة العربية ، ولكنه بجانب هذا سيقضي على الاستخدام المزدوج للأنظمة المستبدة لفكرة الانفصال، فهي تبرر استبدادها في جانب منه إلى مجابهة هذا المخطط، الذي يدفع الحكومة المصرية لمنع إعادة تسكين النوبة في أراضيهم، بحجة أن هذا سيمهد لمطالب الإنفصال التي لا تملك الحكومة في مواجهتها صداً أو رداً، باعتباره مطلب يحميه الغرب ويعتمده على الفور. كما أن هذه الحكومات تقدم نفسها لقوى الاستعمار بأنها بسوء سياستها فإنها تمهد الأجواء لاستكمال وظيفتها في التفتيت والتقسيم!

لقد حفر لنا الغرب حفرة فوقع فيها.
0
التعليقات (0)