كتاب عربي 21

المهم الكشكول وشكله

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في فيلم (الناظر– 2000) للمخرج شريف عرفة، يطرح المدرس زكريا الدرديري عددا من الأسئلة على التلاميذ بحضور الناظر صلاح الدين وصديقه ومستشاره عاطف.

زكريا الدرديري: السؤال الأول سهل جدا وبسيط.. من هو قائد ثورة 1919؟ قم إنت..
التلميذ: سااااء....
الناظر صلاح الدين: اه..
التلميذ: ساااااء
زكريا الدرديري: أيوه.. فعلا هي أولها سين.
التلميذ: سامي؟
زكريا الدرديري: ركز يا حبيبي علشان حضرة الناظر. أولها سين.
التلميذ: سامية..
الناظر صلاح الدين: أستاذ درديري.. دقيقة واحدة. بالراحة يا ابني.. بالراحة. انت اسمك ايه؟
التلميذ: سعد زغلول.
الناظر صلاح الدين: اسمك سعد زغلول؟ مفيش فايدة. اقعد..
زكريا الدرديري: سؤال ثاني، مين ايلي قتل الله يرحمه علي بيه الكبير؟ مين؟ ما تنطق يا ابني مين ايلي قتله..
التلميذ: والله ما أنا يا أستاذ.
عاطف: بقولك ايه.. هو مين ايلي قتل علي بيه الكبير؟
الناظر صلاح الدين: أكيد طالب من مدرسة ثانية.

لم تكن سياسة التجهيل، التي حولت المتمدرس والمدرس إلى آلات لنشر وتلقي الجهل جيلا بعد جيل، التي مارستها الأنظمة الاستبدادية العربية كافية لإشباع رغبتها في تقويض أي إمكانية لتعليم الأجيال خوفا من أن يشكل الأمر وبالا على المستبدين وفرصة ينفتح من خلالها العامة على رحابة الفكر الحر باعتباره التهديد الأكبر لعروشها. 

المدارس في الأنظمة الاستبدادية مجرد حجرات فارغة من أي روح ابتكار أو خلق، هدفها الوحيد كان تبرير مصروفات بالملايين تنسب في الميزانيات لقطاع التربية والتعليم والبحث العلمي. وإن كان من فائدة ترجى منها فقد اقتصرت على نشر الرواية الرسمية للأحداث والوقائع وتفسير الدين والحاضر والمستقبل بما يرسخ التبعية والخنوع للاستبداد. 

ولأن الأنظمة الشائخة تلك فوجئت رغم كل الجهد المبذول ذاك بعامة الشعب، بقيادة جزء من شبابه، تخرج إلى الشوارع منادية بالحرية والكرامة وتقاسم الثروات والحق في المشاركة السياسية واختيار شكل الحكم على مبدأ المحاسبة، فقد هرعت تلك الأنظمة من المحيط إلى الخليج تبحث في المناهج الدراسية عما اعتبرته مواطن الخلل مدفوعة بفهم خاطئ لمفهوم التربية والتعليم وبمحيط دولي صار يرى في الدول الإسلامية والعربية مجرد مفرخة لظاهرة "الإرهاب".

في فيلم (قانون إيكا – 1991) للمخرج أشرف فهمي، يقف الأستاذ الجامعي حسين فهمي، بعد خروجه من المعتقل، في مواجهة طلبته داخل مدرج كلية الحقوق حيث يدرس في العام 1968.

الأستاذ حسين: في الحقيقة أنا ايلي خضني مش التحقيق ايلي عملوه معايا. لكن ايلي رعبني هو فكرة المسؤولين عن التعليم عموما.. هما للأسف متصورين أن الهدف الرئيسي للجامعة هو تخريج أكبر عدد ممكن من المواطنين التابعين للسلطة وتوزيعهم على الهيئات والمصالح الحكومية زي ما بيوزعوا الفراخ على المجمعات الاستهلاكية بالضبط. لكن ده بيتناقض مع نظرية التعليم.. التعليم في أساسه هو بناء العقول وتكوين فكر جديد حر لأن الحرية هي روح الأخلاق، ومن غير أخلاق يبقى مفيش حرية، مفيش إخلاص، مفيش اهتمام ولا حتى واجب.

ليس بمستطاع دول الهامش، التي نشكل عمادها وكتلتها الأساس، إدعاء امتلاك المعرفة وإنتاج العلوم الإنسانية المختلفة فلم تجد غير مناهج التاريخ، قديمه وحديثه، ومناهج التربية المنطلقة من الدين لتنقيتها وتشذيبها إرضاء لطموحات المستبد الداخلي وتحقيقا لرغبات الكفيل الخارجي. التاريخ يكتب من محبرة الحكام والدين ونصوصه تأول من "اجتهادات" وعاظ السلاطين.

في إحدى الفيديوهات التي دأب الصعيدي شرشوب همام على نشرها على اليوتيوب قبل أن يناله حظه من الاعتقال على يد سلطة الانقلاب بمصر، لم يتوان الأخير على تقديم النصيحة قائلا: أرجو من أي بني آدم مسلم تشتري مصحف وتخليه في بيتك لأحسن أولاد الوسخة دوله والله ممكن يغيروا المصحف. والله ايلي انت شايفهم دول الرؤسا الكفرة دوله يغيرو المصحف.. أنا بقول الكلمة ده وحَوصّي بيها ولدي، وولدي يوصي ولده.. اياكم لأن الناس دوله هدوا المساجد وكل ايلي قال لا اله إلا الله ضربوه.

لم تكن نصيحة همام بعيدة عن واقع الحال. فقد كانت كتب التربية الإسلامية أولى المناهج التي خضعت لإعادة النظر حيث استبعدت منها آيات قرآنية وأحاديث اعتبرتها "محاكم التفتيش" الجديدة دعوات للإرهاب والقتل وتأصيلا للتطرف والتحريض وحضا على الكراهية واتهاما للأديان الأخرى بالتحريف.

لقد تحولت المناهج المدرسية فجأة إلى مجرد منشورات مؤدلجة لا تراعي مبادئ حقوق الإنسان أو المواطنة أو المساواة بين الجنسين. والبديل كتب جديدة تحت إشراف أمريكي، كما أكد وزير الخارجية ريكس تيلرسون في جلسة استماع بالكونغرس خصصت لمسألة بيع الأسلحة للسعودية "قائدة العالم الإسلامي"، حيث اعتبر أن أهم نتيجة لـ"إعصار ترامب" الذي ضرب خمسين دولة إسلامية في قمة الرياض، كان الاتفاق على إقرار كتب جديدة تحل مكان كتب الفكر الوهابي بإشراف خبراء أمريكيين بما يحققه ذلك من نقلة كبيرة في تغيير الفكر الإسلامي والعربي في اتجاه تقبل الآخر والتعايش معه.

الأكيد أن كثيرا من الدول العربية بدأت رحلتها في استكشاف مناطق السلام والتعايش قبل تلك القمة، فكان أن قرر المغرب تشذيب ما اعتبره آيات الجهاد من مقرراته وفق تصور جديد للمادة يأخذ بعين الاعتبار "حاجات المتعلمين والمتعلمات الدينية التي يتطلبها سنهم وزمانهم ونموهم العقلي والنفسي"، وهي نفس التبريرات التي دفعت الأردن لتبني نفس المقاربة "التطهيرية".

أما في اليمن فقد رأى الحوثي أن محاربة "الفكر الوهابي التكفيري" تبدأ من مناهج التعليم فكان له ما أراد وعلى مساره نحت الجزائر فحذفت البسملة نهائيا من على كتبها المدرسية وارتاحت وأراحت. مشكلة أمريكا وأدواتها التنفيذية في المدارس العربية أن للمسلمين قرآنا يحتفظون به ورقا كان أو في الصدور، يرتلونه في المساجد ويقرأون آياته في المناسبات دون أن تتمكن منه آلات التشذيب الرسمية حتى اليوم.

وإذا كان للقرآن رب يحميه، فالتاريخ مشاع ومستباح. وإذا كان لكل طائفة لبنانية تاريخ تدرسه لأبنائها، فالأكيد أن مريدي المدارس العربية  سيصبحون على منهج تاريخ جديد في ليبيا واليمن وسوريا والعراق وبقية البلدان. كيف لا والجغرافيا ذاتها صارت كالرمال المتحركة تبتلع الأراضي والجزر وتتغير معها الخرائط والحدود. والواضح أن المنطقة مقبلة على كثير من الهزات كمقدمة تغييرات أكبر يتم لها الإعداد في العلن والخفاء.

معركة كتابة التاريخ ليست وليدة اللحظة، فكل الأنظمة سعت ولا تزال لامتلاك الرواية الأوحد للماضي في محاولة للسيطرة على الحاضر وتهيئة المستقبل وفق أجندات شخصية وفصائلية وإيديولوجية أبعد ما تكون عن المصلحة الوطنية أو القومية ومعه يصبح المدرسون مجرد أدوات تلقين لا يجمعهم بالتعليم غير الراتب الشهري.

وهاهي المدرسة نجيبة، في فيلم (الثلاثة بيشتغلوها – 2010) للمخرج علي إدريس، تخضع درس التاريخ لميولاتها الايديولوجية فيصبح  درس الأهرامات كالتالي:
نجيبة، المدرسة الثورية: الأهرامات.. هنا عند سفح الأهرامات مات آلاف العمال المصريين الكادحين لأن مصر الفرعونية كانت دولة رأسمالية يتحكم فيها الأغنياء في الأغلبية الساحقة من الفقراء والمهمشين.
نجيبة، المدرسة الإسلامية: درسنا النهارده عن الأهرامات.. تلك الأبراج المشيدة التي بناها الكفار.

في دروس التاريخ المؤدلجة يصبح الإخوة أعداء والأعداء أصدقاء، ويتحول المقبول منبوذا والمنبوذ مرحب به بالأحضان. أما التلاميذ فمجرد وعاء يشحن بما يراه الحاكمون ملائما للسن والزمان والنمو العقلي والنفسي، والأهم الملاءمة مع ما تريده القوى الكبرى وتراه الأفضل لتيسير مخططاتها. وبين مخطط وآخر يستمتع التلاميذ بقصيدة "الفيل يستحم" وكلماتها: طش طش انهمر الماء حلت ضوضاء، اش اش قال المحار الجبل انهار.... والهدف تعلم السلم الموسيقي حسب وزير التربية السوري.

لقد اختصرت الأستاذة محبات، في فيلم (لا مؤاخذة – 2014) للمخرج عمرو سلامة، الموضوع كله وهي تقدم نفسها للتلاميذ الجدد.

أستاذة محبات: الأستاذة محبات..  أستاذة الرياضيات عليكم.. أنا عايزة جلاد أخضر وتيكيت أحمر وكشكول مربعات متين صفحة، مينقصوش صفحة.. حتقولي دورت على متين صفحة ملقيتش.. حقولك مش مشكلتي.. حتقولي ما معييش فلوس.. حقولك اسرق.. عنك ما عملت الواجب.. عنك ما تعلمت.. المهم الكشكول وشكله.. فاهمين؟

0
التعليقات (0)