كتاب عربي 21

رب صمت أبلغ من كلام

طارق أوشن
1300x600
1300x600
يقال إن السكوت إمساك عن الكلام حقًا كان أو باطلًا، أما الصمت فهو إمساك عن قول الباطل دون الحق. والسكوت هو ترك التكلم مع القدرة عليه، وبهذا القيد الأخير يفارق الصمت.

في دول الحصار المفروض على قطر منذ أكثر من مائة يوم، تحول إبداء التعاطف مع الإمارة المحاصَرة جريمة شرعتها الحكومات عقابا ل"مواطنيها".

لأجل ذلك صار الحديث عن الأزمة الخليجية من المحرمات، إلا في أضيق الحدود. لا صوت يعلو على صوت الذباب الإلكتروني ومغردي "الفايف ستار" من الوزراء وبعض المشاهير الذين تركوا أشغالهم وسكنوا وسائل التواصل الاجتماعي تملقا أو تنفيذا لتعليمات لا ترد ل"أولي الأمر".

لكن الفشل المتواصل لمبادرات مهندسي الحصار، جعلتهم يستنفرون الأسلحة "الناعمة" كلها، بعد فشل الخيار العسكري أو تأجيله حتى حين، بل إن الإحجام عن المشاركة في تلطيخ سمعة قطر والصمت عن تبني الانحطاط الإعلامي بمباركة رسمية لم تعد تخفى على أحد، صار "تهمة" تعرض صاحبها للاعتقال. في دول العالم المتخلف يصارع المواطنون لافتكاك حقهم في التعبير من أيدي المستبدين، وفي دول الحصار أصبح الحق في الصمت والنأي بالنفس عن المشاركة في الرفث الرسمي أمرا بعيد المنال.

في أرض الحجاز، حيث لا صوت يعلو عن صوت "الحق"، وجد عدد من الشيوخ والأكاديميين أنفسهم معتقلين كدفعة أولى من لائحة يتزايد أفرادها يوما عن يوم توّجها بيان من رئاسة الأمن الوطني يعلن اكتشاف "خلية استخبارية" لم تتحدد معالمها بعد.

يبدو أن المملكة أرادت الاحتفال بطريقتها بالذكرى السنوية لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر التي نفذها منتسبون إليها. يأتي هذا في الوقت الذي طفت فيه اتهامات لموظفين بالسفارة السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية ب"الضلوع في الإعداد للاعتداءات".

صارت شهرة بعض الشيوخ عبئا على البلاد ولابد من إظهار "الحزم" في مواجهتهم إرضاء لأمريكا الجديدة، وتوريطا لدول جارة بالتخطيط لاستهداف البلاد. لم تتحدد بعد الدولة المعنية بالقضية رغم أن كل المؤشرات تشير لاثنتين لا ثالث لهما: قطر أو إيران التي استكثروا عليها أن تكون "دولة شريفة" في اجتماع وزراء الخارجية العرب قبل أيام.

بعد استدعائه ومحاولات إهانته داخل أروقة مقر أمن الدولة، يجد الشيخ حاتم الشناوي نفسه يؤم الضباط المسؤولين عن استقدامه إلى الجهاز.

الشيخ حاتم: اللللله... أبو المكارم باشا.. لا مؤاخذة يعني.. بالنسبة للآيات، فيه آيات عليها حظر ولا أوبن؟
أبو المكارم: يعني.. يا ريت بلاش آيات العذاب والنار.. خلينا في آيات الجنة.
الشيخ حاتم: طبعا.. ماهو سيادتك عمرك ما حتورد على نار.
وبعد الانتهاء من "صلاة الفجر" يبدأ الحوار في فيلم (مولانا – 2016) للمخرج مجدي أحمد علي..
أبو المكارم: على فكرة الباشا بتاعنا ده راجل محترم جدا وجزمته بكل ايلي بيقولو على نفسهم معارضة وكلهم ملفاتهم عندنا ومليانة فضايح.. احنا بس مش عاوزين ندي لعملاء أمريكا الفرصة يكلمونا على حقوق الإنسان والكلام الفارغ ده.

الضابط فيصل: اطّمن يا باشا.. احنا على ثقة كاملة في ولاء الشيخ حاتم الشناوي.
أبو المكارم: وأنا بعتذر لك تاني عن ايلي عملوه إخواننا هنا.. قل له يا فيصل أنا عملت فيهم ايه على شانه..

الضابط فيصل: آه طبعا سيادتك.. سيادته اعتبر ايلي احنا عملناه ده خطأ شنيع جدا.. بس اطّمن.. سهلة الحكاية والغلط مردود.. كلها كام يوم ويخرج على طول.. احنا بس تخف علينا الحملة الإعلامية ايلي انت عارفها ده ونسوي القضية ويطلع على طول.. احنا حنخليه عندنا نعمل بيه ايه..

الشيخ حاتم: انتم بتكلموا عن مين؟
أبو المكارم: أنا عارف كويس حبك للشيخ مختار الحسيني ومهما حاولت تقول عنه حأقولك أنت صادق.. وعارف انه القضية كلها متلفقة من إخواننا هنا.. الراجل لا هو شيعي ولا سافر إيران ولا فيه تنظيم ولا الكلام الفارغ ده كله.. بس هو اتوصم بالمصيبة ده بقية حياته يعني لا مريدين ولا موالد ولا الهيصة ده.. يحمد ربنا أنه حيروح على طول من غير سجن ومحاكمة وبهدلة.. يعني تقدر تقول كلها ثلاث أسابيع ويروح للست والدته.

هذا بالضبط ما تسعى إليه أي سلطة مستبدة من المحيط إلى الخليج. لكل شخصية عامة شيخا كان أو مثقفا أو رياضيا حدودا للشهرة والتأثير لا يمكن تجاوزها. والأهم أن الولاء للدولة هو المقابل لهامش "الحرية" في الحركة والتربح والارتقاء الاجتماعي. وكلما لاحت بوادر شك أو ريبة في منسوب الولاء والخنوع للنظام، تعيد أجهزته الأمنية الأمور إلى نصابها ولو اضطره الأمر للتضحية ببعض "الرموز" أو قتلها معنويا وهذا أضعف العقاب.

الاتهام بالعمالة لقطر أو إيران أو غيرهما وترسيخ ذلك في أدمغة المواطن البسيط ضحية القصف الإعلامي المكتوب من نفس المحبرة وبنفس الدواة، محاولة للضرب في صدقية المعتقلين وتلطيخ سمعتهم في ظل التجييش المتواصل فإما أنك معنا أو ضدنا. فلا مبادئ ولا كرامة ولا اختيار مع الوطن.

قبل اعتقاله، جلس الشيخ مختار إلى تلميذه الشيخ حاتم، الذي صار نجما في برامج الفتوى الفضائية، يشكو إليه التضييق الذي صار يتعرض له هو ومريدو زاويته..
الشيخ مختار: اشتكينا لوزير الأوقاف لكن على ما يبدو هو راضي على الموضوع ده إذا ما كانتش هو السبب أصلا.
الشيخ خاتم: أغضبت مين يا شيخ مختار إلى هذا الحد علشان يعمل كل ده؟ ده أنت راجل مسالم لا ليك في سياسة ولا سلطة.
الشيخ مختار: يمكن يكون صاحبك.

كان الشيخ مختار يتحدث عن نجل الرئيس/ ولي العهد. الساسة والملوك والأمراء والرؤساء لا أصحاب لهم، فهم السادة والبقية مجرد أدوات للاستخدام وبيادق للعب ومنازعة الخصوم. لم يشفع للدعاة والأكاديميون المعتقلون إمساكهم عن قول الباطل دون الحق، والنتيجة حملة اعتقالات ولوائح مفتوحة كما أبواب السجون والمعتقلات وصمت تام عن أضعف الإيمان إدانة واستنكارا.

يدخل الشيخ حاتم مكتب ضابط أمن الدولة دون استئذان.
الضابط: سيبوه.. اتفضلوا انتم يا بهوات.. أهلا وسهلا يا مولانا.. اتفضل..
الشيخ حاتم: الشيخ مختار فين؟
الضابط: طب اهدأ بس يا مولانا.. ده احنا عايزين نفتح معاك صفحة جديدة يا راجل.. الفرصة قدامك تبقى الشيخ نمرة واحد في مصر كلها.. عرفتنا وعرفناك.. ايه ايلي يمنع اننا ننسق مع بعض علشان مصلحة الدولة والدين.
الشيخ حاتم: الشيخ مختار فين؟
الضابط: مش عندنا.. ومشكلته مش معانا.. انت تعرف كويس أوي أن مشكلته مع المتشددين والسلفيين والرأي العام واللحظة ايلي احنا فيها ده بتفرض علينا يا مولانا نكون ايد واحدة.. فهمني؟
الشيخ حاتم: ومين ايلي عمل كل دول يا باشا؟ مين خادهم على حجره وكبرهم وداهم كل جوامع مصر؟
الضابط: مش احنا.. احنا كنا مسيطرين كويس أوي.. صاحبك هو ايلي فضل يكون لوحده وهو بغباوته يتحمل كل ايلي حصل له.. البني ادم الذكي يا مولانا يعرف مصلحته فين ويدور عليها ويخاف على روحه أوي علشان ساعة الجد نقدر نحميه.

مصر/ الدولة البوليسية، صارت النموذج والمثال. كانت البداية بتبني لائحة الشخصيات والمنظمات الإرهابية ومعها مدرسة "الردح والانحطاط الإعلامي" المعتمدة على تلفيق الأخبار واختلاقها بل التفوق عليها. اليوم، وبعد فشل مخطط إركاع الشقيقة الصغرى، استلهام لدولة الخوف في محاولة لإسكات الأصوات المخالفة ولو كانت "صامتة تحسبا لدعوات للتظاهر في الخامس عشر من الجاري. ما أوهن البيوت إن هي اهتزت لدعوات تظاهر مجهولة، وهي التي دأبت على "تحريض" القطريين على الخروج على "ولي الأمر" وقدمت لذلك "بديلا" بعد أن نشرت أخبارا عن تظاهرات وانفلات أمني وقمع واعتقالات..

في خطبة الجمعة وبحضور أحد الوزراء، شرب الشيخ حاتم حليب السباع وانطلق في خطبته دون وجل: أتى أبو ذر الغفاري إلى النبي الكريم وقال له أي رسول الله ولّني إمارة فقد فتح الله عليك الدنيا.. أمّني على كذا أو ولّني على كذا.. أنظروا ماذا قال له الرسول.. قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. فيا أصحاب المناصب والرياسات إنها أمانة، إنها مسؤولية تحاسبون عليها يوم القيامة أمام الله.

كان ذلك قبل أن يدخل دائرة الأضواء وسحر استديوهات التلفزيون. يومها اشتكى من استدعائه على عجل للبرنامج دون تحضير مسبق.

الشيخ حاتم: أيوه.. بس يعني كده قبل التصوير بساعة؟
المخرج: يا شيخ أنت قلقان ليه؟ مش حتفرق.. أي كلمة من ايلي بتقولها في كل الجوامع.
الشيخ حاتم: لأ.. تفرق كثير.. الشيخ في الجامع بيرضي ربنا. إنما شيخ التلفزيون يرضي الزبون والمنتج والمعلن وإذا أرضى ربنا في السكة يبقى خير وبركة.

الحكام يريدون من الشيخ والمثقف والأكاديمي وكل ذي تأثير أن يتحولوا إلى مجرد "دليم" يرضي غرورهم ويصدح بصوتهم بالجوامع والتلفزيونات والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، ولسان حالهم يقول: إياك وأن يضرب لسانك عنقك!
0
التعليقات (0)