قضايا وآراء

"الناس العاديون" ملح الأرض وخبز الحياة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
"لا تتهموا الجماهير"، عبارة يعرفها أصدقاؤنا اليساريون جيدا فقائلها هو الزعيم والمنظر فلاديمير لينين (1870-1924) ولينين كان زعيما ثوريا بامتياز يعرف قيمة الجماهير في التغيير ودورها واسع التأثير في حركة التاريخ فهم الذين يشكلون خزان قوى التغيير والتقدم في المجتمعات وهم الرقم (الملك) في معادلة التغيير والثورات. والثورة الروسية بالذات كان دور العوام والجماهير الغفيرة فيها كبيرا.

(سيكولوجية الجماهير) عنوان لكتاب شهير صدر عام 1895م لجوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي(1841-1931), بعض الأفكار التي تطرق إليها لوبون كأحد مؤسسي علم نفس الجماهير تخطاها الزمن الآن خاصة في الغرب الذي تحول من كتل ( بشرية) إلى مجموعات منظمة من (المواطنين) المدركين لحقوقهم وواجباتهم تحت راية العقد الاجتماعي.

في رؤيته للعامة والعوام يذكر لوبون أن (للكلمات الرنانة سطوتها وللأوهام حضورها الأسطوري على اعتبار أن العامة غير قادرة على استيعاب الحجج العقلية). الخطاب العقلاني لا يجذب الجماهير لأنها تفضل كل ما هو بسيط، محركو الجماهير من الخطباء لا يتوجهون إلى عقلها بل إلى عاطفتها فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير فيها.

انشغلت العرب قديما بمسألة العوام، وهم لهم مكانة معتبرة في الإسلام ,فهم جموع (الأمة) التي لا تجتمع على ضلالة كما قال الرسول الكريم ولاحظ وصف ( أمة ) الذى يحظى في الأدبيات الإسلامية بمكانة سامية وتقول الآية الكريمة (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ...) ..وبالأحرى نستطيع أن نقول أنه في المجتمع الإسلامي الواعد ستجد أن صفة العامة من الناس أو (العوام) تكاد لا تكون، ذلك أن الخطاب الإسلامي للفرد اعتقادا وعبادة وأخلاقا يجعل منه حالة (إنسانية) له من سمات الرقي ما يرتفع به عن حالة (العوام) إذ يجتمع كما قال الرسول مع  نظرائه في تكوين (الأمة).

لكن ما إن نبتعد قليلا عن العصور الراشدة وندخل في عصور الملوك والسلاطين حتى تظهر لنا مفردة (العوام) كثيرا عوام عصور الرشاد وصفهم الإمام على بأنهم(عماد الدين وعدة الأمة). (عوام) العصور التالية وصفهم الجاحظ بأنهم (السفلة ..الذين ليس في الأرض عمل هو أكد لأهله من سياستهم، قاربوهم وباعدوهم كونوا معهم وفارقوهم واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه العوام وأن المقهور من كانت عليه..) إدراكاً منه لوزنهم ولأهمية السيطرة على الثقافة الشعبية التي كانت ساحة صراع بين تيارات واتجاهات سياسية فكرية متنازعة وكان لها أيضاً دور هام في حسم هذا الصراع، لم يبخل عليهم أبو حيان التوحيدي أيضا بأوصاف شبيهه فقال إنهم (الهمج الرعاع الذين إذا قلت لا عقل لهم كنت صادقا..)! ويتابع آخذا في الاعتبار أهمية وجودهم كونهم: (هم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا العامة فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق.

لدي شخصيتان في التاريخ الإسلامي استطاعا تدبير لا ترويض العوام الأول هو أبو حامد الغزالي (1058-1111م) الذى اجتمعت له ثقافة الأمة العقلية والنقلية من أطرافها، والثاني هو حسن البنا (1906-1949م) الزعيم والفقيه ومؤسس أكبر تنظيم شعبي في العصر الحديث.

ما عجز عنه كل من الجاحظ والتوحيدي في تدبير العوام يمارسه الغزالي بمهارة وإتقان، فقد استطاع أن يسوس العوام فيجيشهم ضد الفلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا باعتبارهم مبتدعة لكنه أيضاً يحيدهم حين لا حاجة له بهم ,فهؤلاء عليهم أن لا يخوضوا في ما ليسوا بأهل له, وقد حمل أحد كتبه عنوان ( لجم العوام عن علم الكلام) وكتابه الأشهر (تهافت الفلاسفة) أشهر من أن يعرف.

البنا استطاع تدبير العوام في تنظيم شعبي ضخم يعتمد بالأساس على (الفكرة الدينية) كان البنا يتحرك في الزمن الصعب كما يقولون فعواصف العلمانية التي هبت من الغرب على أثر التجربة الدينية المريرة في أوروبا  والتي ارتبطت نهضته بترك الدين ,ما لبثت أن جاءت إلى الشرق الإسلامي الذى قام ونهض على يعد تعرفه على الدين وكان ضعفه واضمحلاله كان بعد فتور علاقته بالدين وإبعاده عن الحياة، وصعوبة زمن البنا تكمن في أن هذه الأفكار لم تأت عبر صفحات الكتب فقط وإنما جاءت على ظهر الدبابة والمدرعة وباحتلال عسكري مباشر فكانت المواجهة الكبرى لتحرير العقل والأرض.

وأدرك البنا بحسه السياسي والزعامي المرهف أين موطن (العلة) وكيف يكون العلاج، وما كان عليه إلا أن يبدأ، وإذ وهبه الله قبولا وجاذبيه وخطابه(والإنسان منا هو أعرف الناس بمواهبه) فما كان عليه أن يتأخر فذهب يبحث عنهم من فوره، وكانوا هم في انتظاره كما تقول الحكايات، وما هي إلا سنوات عديدة  إلا ونجد صورة الرجل على غلاف مجلة روزاليوسف وتحتها عنوان لا تخطئ العين دلالته (هذا الرجل يتبعه مليون رجل) إحسان عبدالقدوس الذى كتب هذا التحقيق وقتها سيكتب في أيامنا بابا شهيرا في الصحف المصرية (على مقهى في الشارع السياسي) كان إحسان يدرك ما يقوله ويعنيه، فهو نفسه كروائي وكاتب سياسي كان جمهوره من العوام.

قديما قال إن الشعوب على دين ملوكها الآن الشعوب على دين إعلامها، الإعلام هو ( كلمة السر) في تدبير العامة من الناس وهو ما تنبأ به (جورج أورويل) في رواية (الأخ الكبير) حيث أفاض في الحديث عن دور الإعلام في التحكم بالجماهير وتوجيهها كما يشاء أصحابه.

العالم كله يشهد نوع من الاتفاق بين الإمبراطوريات الإعلامية والقيادات السياسية لأنهم في حقيقة الأمر يخدمون هدفا واحدا وهو (ترويض العامة والجماهير).
0
التعليقات (0)