كتاب عربي 21

التهافت الغبي (3)

جعفر عباس
1300x600
1300x600
التهافت الغبي هو ما يمارسه القادة العرب، لخطب ود رؤساء الولايات المتحدة، بدرجة أنهم صاروا يزايدون على بعضهم البعض في التزلف لرب البيت الأبيض، وسأحاول اليوم، وربما في مقالات تالية، أن استعرض عواقب التهافت وتسليم الرقاب لواشنطن، بإيراد ما حدث لرؤساء دول كانوا يتلقون التوجيهات في كل شأن من شؤون بلدانهم من البيت الأبيض (أبيض فقط من حيث الطلاء).

بعض أولئك الزعماء كان عميلا أجيرا للمخابرات الأمريكية المركزية، ويتقاضى مكافآت شهرية منها نظير تزويدها بمداولات المؤتمرات الإقليمية التي كانوا يشاركون فيها، وأنشطة القوى المعارضة للسياسات الأمريكية في بلدانهم، وهو أسلوب أخذته المخابرات تلك عن مكتب التحقيقات الاتحادي (إف. بي. آي)، الذي يستعين بذوي السوابق الإجرامية كمخبرين، فيستفيدون (ذوي السوابق) من الغطاء الأمني، ويمارسون إجراما "على مستوى".

كان فرانسوا دوفالييه رئيس هاييتي وديكتاتورها ما بين عام 1957 و1971، واتصف حكمه بالإرهاب والاعتداء على حريات المواطنين وممتلكاتهم، وقد جمع بين مساوئ الإقطاع والعصابات الإرهابية. وفرض عزلة مظلمة على هايتي، وناصر السياسة الأمريكية في كافة المجالات. 

وهو صاحب مبدأ "قتل نصف الشعب من أجل أن تنقذ نصفه الأخر"، وصدّق أنه المنقذ، وأطلق على نفسه لقب بابا دوك، أي الطبيب الأب، وشكل ميلشيات من المواليين له، أسماها "تونتون ماكوت"، أي المتطوعون، وكانت فرقة إرهابية رديفة للمخابرات، وظيفتها ترويع الثوار، واغتيال الخصوم أو المشكوك في ولائهم، وابتزاز أموال الفقراء، وكانوا يتلقون أوامر الخطف والقتل مباشرة من فخامة الرئيس.

كان يفعل كل ذلك بمباركة كاملة من الولايات المتحدة، "أيقونة الديمقراطية"، التي كانت تقدم له عطية شهرية دسمة لزيادة دخله الشهري، الذي كان قوامه عائدات بيع أعضاء ودماء المواطنين الهايتيين للمستشفيات الأمريكية. 

وبوفاته آلت مقاليد الأمور إلى ولده ابن التسعة عشر عاما، جان كلود دوفالييه، الذي أثبت أنه ابن أبيه، بأن سار على نهجه في القمع والسحل والسلب ونهب للأموال العامة، فاستحق لقب بيبي دوك (الطبيب الطفل، لأن أباه كان بابا دوك، أي الطبيب الأب).

وكانت واشنطن توفر له أيضا الحماية وتغدق عليه الأموال، ولكن كل ذلك لم يُجْدِ عندما انتفض الشعب ضده فصاح: الكونغرس .. البيت الأبيض أدركاني، ولكن "لا حياء لمن نادى"، ولما أدرك دوفالييه أن حياته، وليس فقط منصبه في خطر، حزم حقائبه ليتوجه الى أولياء نعمته الأمريكان، فقالوا له "كان زمان"، ورفضوا منحه مجرد تأشيرة سياحة/ زيارة، فكان أن هرب إلى فرنسا، وأقام فيها منبوذا محسورا لربع قرن من الزمان.

ننتقل إلى نموذج آخر لتأكيد ان الولايات المتحدة تأكل كل زعيم يواليها لحما، وترميه عظما، بعد انتهاء أمد صلاحيته لأغراضها وسياساتها، ونتوقف عند رئيس بنما الأسبق مانويل نورييغا، الذي أعده الأمريكان عميلا لهم، وهو شاب يتلقى العلم "الممنهج" في معهد الدراسات الأمريكية، فصار جاسوسا ذا شأن للمخابرات المركزية الأمريكية، التي مهدت له الصعود والترقي داخل الجيش البنمي، ثم أوعزت له القيام بانقلاب عسكري في عام 1983 رفضا لنتائج الانتخابات التي كانت ستأتي بقوى لا تكنُّ الكثير من الود لواشنطن.

وكما فعل دوفالييه، فقد أعمل نورييغا في مواطنيه  قتلا وبطشا وسرقة لأموالهم، ثم حسب أنه يتمتع بالحصانة من ملاحقة سلطات الأمن الأمريكية، فصار أكبر مهرب للمخدرات للولايات المتحدة، التي صارت تدرك أن المخدرات، وليس الشيوعية أو الإسلام، هي الخطر الحقيقي على مستقبل أبنائها وبناتها.

طلبت واشنطن من نورييغا، ليس فقط أن يكف عن الاتجار بالمخدرات، بل أن ينضم إلى جهودها لمكافحة تهريبها، و"راح نبسطك"، فحسبها الرجل، واكتشف أن عائد تجارة المخدرات أكبر عشرات المرات من عائد العمالة للولايات المتحدة، فعاند الأخيرة، التي ما كان منها إلا أن غزت بنما، واختطفت نورييغا من سفارة الفاتيكان في بلاده، حيث كان يختبئ، ونقلته إلى الأراضي الأمريكية، وقضت بسجنه زهاء عشرين سنة، ثم سلمته إلى فرنسا، التي أودعته السجن بتهمة غسل أموال المخدرات، ثم أعادته إلى بلاده حيث أودع في السجن، وتوفي في مايو المنصرم غير مأسوف عليه.

هذا غيض من فيض ثمن التهافت على واشنطن، فاتعظوا ان كنتم من أُولي الألباب، فهذا عصر السلع الـ"disposable" التي تستخدم لمرة واحدة، ثم يتم التخلص منها، فلو كانت الولايات المتحدة تبيع عملاءها متى ما استنفدوا أغراضهم، في السبعينات والثمانيات، فكيف يكون الحال في ظل العولمة، التي تقضي بتسليع كل شيء من الحجر والبقر إلى البشر.
0
التعليقات (0)