قضايا وآراء

ولا تزال.. غربتي وطني (؟)

جمال الجمل
1300x600
1300x600
مفتتح وتسليم:

عندما صار الوطن دار غربة يا صاحبي ودليلي.. اتبعت خطاك غير ناقم ولا ذليل، حتى صرت في الدنيا غريباً.. وعابر سبيل.
 
(1) اعتراف اختياري

أعترف وأنا في كامل إرادتي، ولياقتي النفسية والعقلية، أنني تعرضت لصدمة عنيفة أربكتني، ودمرت حصوني الآمنة، جراء القصف المكثف الذي شنته الكتائب الأمنية لنظام الفساد والخداع..

في البداية كانت المواجهة سهلة، فأنا متمترس في مكتب صغير غير عابئ بعصا النظام ولا بجزر الإغواء الذي يشتري به الأقلام والمواقف والضمائر، ولما تم التضييق على مقالاتي، شرعت في توسيع منصتي على "فيس بوك" لتكون "منبراً أؤذن منه للحرية" كما قلت في أحد بياناتي تعليقا على منع نشر مقالاتي في صحيفتي الأساسية (المصري اليوم)، لكن استمرار المنع، ثم إغلاق صفحتي على "فيس بوك"، ونشر الشائعات عن وجود صفحات مزيفة ينشرها الأمن لاصطياد المتابعين لي، ثم التضييق المالي بحيث توقفت كل سبل الدخل، حتى أن البنوك رفضت استقبال التحويلات المالية للمقالات التي أكتبها في الخارج!، كل ذلك أدى إلى حالة من التشتت الذهني، وفقدان التركيز، واللجوء إلى لغة عصابية غاضبة، وتعمدت الأجهزة الأمنية المحترفة تصعيد الضغط عن طريق حملات التشويه والسباب والاتهام بالعمالة، وبالفعل شعرت أنني أخسر الكثير من عوامل قوتي وصفاء ذهني، وتذكرت نظرية "الصدمة والترويع" التي أعاد الأمريكان بعثها من التوراة، لاستخدامها في حرب العراق، بعد أن طورها "هارلن أولمان" بمساعدة فريق من العسكريين، ومن أجل تعطيل أثر الصدمة لجأت لقراءة تفاصيل كثيرة عن هذه النظرية وأساليب تطبيقها وأهدافها، ووجدت أن أفضل السبل لمنع هدف "الهيمنة السريعة" التي تسعى النظرية لتحقيقه، هو الحفاظ على قدرتك الفعالة لأطول مدى ممكن، وعدم خوض الصراع بالوتيرة التي تلائم الخصم، لكي أتمكن من فرض إيقاعي على الملعب، وعدم الإنجرار للفخ الذي ينصبه الخبثاء، ومثل كل الأفلام التي تتضمن دراما عنف من هذا النوع، كان على المقاوم أن يفلت لكي يحافظ على حياته، أو حتى كان عليه أن يموت.. ليولد من جديد.

وبهذه الحيلة القديمة صنعت موتي الرابع، لأصنع ميلادي الخامس.
 
(2) أوديسا مصرية

كنت أعرف أن "الغربة" موت، لكنني أردت أن أصنع منها ميلادي الجديد، وقد ساعدني على ذلك أنني عشت الغربة في وطني منذ منتصف التسعينات وحتى قامت ثورة يناير، ولما كتبت قبل ايام عن إحساسي بالغربة، ارسلت لي صديقة عزيزة نص شهادة مطولة كنت قد قدمتها لورشة معايشة ثقافية مع عدد من المثقفين الأوروبيين، وكانت بعنوان "غربتي وطني"، وأرفقت بها مقالاً نشرته في "المصري اليوم" في 24 مايو 2014 (قبل أيام من حكم السيسي) بعنوان "مازالت.. غربتى وطنى"، وبدأ المقال برسالة لصديق تونسي هاجر تاركا أرض العرب كلها، من دون أن يهجر قضايا العرب جميعها، وكانت رسالة ضائعة وحزينة تعبر عن فداحة الغربة التي كنت أعيشها في الداخل، وهذا نصها:

"عزيزى رياض// تحية عربية// ربما لا تتذكرنى إذا قلت: جمال الجمل (وفقط)، فقد نسيت أن أحفر اسمى على جدران الذاكرة العربية الآنية، كأننى لا أريد أن أنتسب إلى هذا الزمان، ستجدنى مشكورا من روحك الطيبة فى مقدمة كتابك المتفائل عن هيكل، ربما تتذكر أيامنا الجميلة فى القاهرة، وفي الإسكندرية التى سافرناها فى ليل لم ينقشع حتى هذه اللحظة عن سماء العرب.. أتابعك كلما تيسر لى أن أتابع شيئا عبر الثقوب الضيقة فى كهوف الذات، وأفرح قليلا عندما أجدك على ذات الطريق بنفس الحماس، والانتماء إلى أحلام تبتعد عنا أميالا كلما اقتربنا منها خطوات.. بحثت عنك فى الفضاء العنكبوتى حتى وجدت ما قد يصلنى بك، أو يقودنى إلى كهفى، لأفكر من جديد فى البحث عن علامة أمضى نحوها فى ظلام لا أملك له شمسا.

رياض.. أين أنت؟

وأين أنا؟

هل مازلنا «هنا» يا رياض؟.. أم أننا جميعا في اللامكان؟

أبحث عن أحد ما..

ربما صديق، ربما مغيث، وربما أبحث عنى

فهل تعرف أين أكون؟

وكيف أعثر على ذاتي؟

هل ثمة وسيلة لـ......

لأى شيء.. لأى شيء..؟"
 
بعد الربيع العربي جاء رياض إلى القاهرة، حاملا الشيكولاتة والذكريات وماء الحنين إلى زمنٍ مضى وإلى زمنٍ لم يأت بعد، لكن رياض الصديق لم يكن وحده، كان معه رياض المطارد من سلطات الأمن العربية، اللاجئ الأبدي في جنيف بين أرض بيضاء وسماء بيضاء، والمؤلم أن الأسئلة التي طرحها اللقاء كانت أكثر صعوبة من الأسئلة التي طرحها الفراق. لأنها لم تكن عنى وعنه فقط، بل عن مسارنا ومصيرنا جميعا كعرب.
 
(3) ذات مَوتَة

حدث أني مت مرة في خريف 2013، وقد سجلت ذلك الموت وما تلاه من صرخة ميلاد في مقال بعنوان "مراجعات وتوجّعات قبل الميلاد"، وكنت قبل ذلك الموت الواقعي (إثر حادث سيارة) قد توقفت عن الكتابة كفعل احتجاجي منذ الجمعة 9 سبتمبر2011 عقب نشر مقال بعنوان «أنا والمسار وهواك»، انتقدت فيه ما سمى يومئذ «جمعة تصحيح المسار»، ولما حاول الصديق محمد شعير أن يقنعني بالعودة للكتابة، كنت أحدثه عن فضيلة الصمت ومراجعة الذات، فالكلام مخيف والضباب كثيف.. كانت محادثة طويلة وصريحة تليق بعلاقتي المتينة بصديقي المثقف بحق، كنت واضحاً معه وأنا أعترف بوجود خلل في علاقتي بالعالم، فقد عشت مع من عاشوا أحلاماً كبيرة، ثم مرت الأيام ليروها بأعينهم وهى تتحول إلى كوابيس ومسوخ، لقد كنت واحدا من الملايين المصابة بهذا الخلل، لكن القليل منا فقط هو الذى يعرف ويعترف بإخفاقه الرومانسي غير المقصود (كم من الكوارث تحدث في دراما الحياة بدون دور لشخص شرير!).

لقد فشلنا يا عزيزي.. ليس كسياسيين وفقط، ولكن (كآدميين) مثلنا مثل الدكتور والمعلمة والمهندس والصيدلانية، كلهم لم يعيشوا أحلامهم التي نسجوها أيام الجامعة؟.. ربما نجح بعضنا في تحقيق جانب كبير مما حلم به، لكن إخفاقات أخرى كانت هناك، تختبئ للجميع خلف سياج حديقة الأحلام... هكذا نبتت بداخلنا بذور الغربة، حتى صدقنا ميلان كونديرا وهو يخبرنا بفلسفته الماجنة أن «الحياة ليست هنا، وأنها في مكان آخر»..

لم أكن أحاول الإمساك بفراشة الحياة لتحنيطها داخل ألبومي (الاقتنائى) كما فعل البطل المخبول في رواية «جامع الفراشات»، لكنني لم أكن أرغب أبداً أن أعتزل اللهو مع الفراشات فى فضاء الحرية، لأنني أرفض التورط في سباق براجماتي محموم تفرضه علىَّ شروط مجتمع الاستعراض وتجار الفتارين.. لذلك عندما تحطم حديد السيارة وخرجت بجروح بسيطة من «بروفة الموت» على طريق القاهرة الاسكندرية الصحراوي.. سألت نفسى عن المعنى.. عما سيبقى منى بعد نصف قرن من الكد والصد والمقاوحة النظرية والعملية؟..

يومها سألت نفسي وكتبت اسئلتي في المقال لتكون شاهدة على موتي وميلادي:
هل أنا قادر فعلاً على صناعة تاريخي الذى أريد؟، أم أننى تمهلت وأهملت وصرت رهناً لتأويلات «الآخرين»؟.

قديماً كنت أردد مقولة سارتر «الجحيم هو الآخرون»، لكن عن أي آخرين أتحدث الآن، وأنا أحياناً أضبطني متلبساً بالتعامل "معي" باعتباري "آخر"؟.. إذن هذه المقولات التعميمية خدَّاعة ويجب الاحتراز منها، لقد انكمشت داخل الغار، حتى ضاعت منى مواعيد الرسالة ذاتها.. فيم يفيد التعبد الانكفائى إذن؟!.. لدىَّ إحساس قوى بأنني قصرت في حق نفسى (تكاسلاً أو تنسكاً لا يهم).. المهم أننى أدركت الآن أن رسالتي تعثرت، وأن قيمتي محل شك، وأننى لابد أن أخرج من كهفي وأصرخ صرخة ميلاد جديد...
هل فهمني أحد؟.. وهل بينكم مثلى من يحتاج لميلاد جديد؟".

انتهى المقال، وانتهت فترة الاعتكاف إلى خروجٍ، وانتهى الموت إلى ميلاد جديد مع بداية عام 2014، لكن القصة لم تنته، لأن الموت لا ينتهي والميلاد لا يتوقف..
 
(1) صرخةٌ جديدة لميلادٍ جديد

في غربة الوطن متُ كما تعودت أن أموت، ومن غربتي أولد كما تعلمت أن أُبعثَ من ترابي.. صخرتي على كتفي، طريقي جبلٌ وعر، شيطاني مخادعٌ وعنيد، لا أخشى حتفي، لأن حياتي ملك ربي، وإيماني ملء قلبي، وهدفي واضح، وأملي أكيد.

اللهم بِكَ نحيا، وبِكَ نموت.. فأعنا على حياة ترضاها ونرضاها، وارزقنا موتاً يؤهلنا لحياة هانئة لا تزول.
0
التعليقات (0)