كتاب عربي 21

التهافت الغبي (1)

جعفر عباس
1300x600
1300x600
   
أشهر مؤلفات الشيخ أبو حامد الغزالي، هو "تهافت الفلاسفة"، والذي يقول في مقدمته "ابتدأت تحرير هذا الكتاب، ردًا على الفلاسفة القدماء، مبينًا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلق بالإلهيات"، واعتبر الغزالي محاولة الفلاسفة "إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان منافيا لمفهوم الفلسفة من الأساس".

 ورد عليه لاحقا ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت"، الذي يرى فيه أن "دين الفلاسفة"، يقوم أصلاً على الإيمان بوجود الله وعبادته، وأن مذهب السببية الذي ينقضه أبو حامد وينفيه، انما هو المذهب الذي يوصل إلى معرفة الله، ومعرفة خلقه معرفة واقعية.

 دخلت في هذا الحقل الشائك، لتبرير سرقتي لعنوان مقالي هذا، والذي وددت لو استطعت تطويره الى كتاب بعنوان "تهافت التوافه"، وأصدره في كذا مجلد ضخم، يحوي الشواهد القاطعة والمحكمة والموثقة، بأن ما نشهده من تهافت مخزٍ ومخجل وشائن على الولايات المتحدة، ينم عن غياب تام للعقل وفقدانٍ للقدرة على قراءة التاريخ القريب والمعاش .

فهذه الولايات المتحدة التي صار معظم القادة العربية يحسبون رضاءها عنهم فوق رضا الوالدين، ولدت سفاحا نتيجة اغتصاب أوربيين لأرض لا تخصهم، بعد إبادة سكانها الأصليين، وكان البحار والرحالة الإيطالي كريستوفر كولمبس، مكلفا من قبل البرتغال باكتشاف طريق قصير الى الهند، فوصل – لا بارك الله فيه – الى شواطئ أمريكا الشمالية في عام 1498، ولمداراة فشله في المهمة الأصلية، أطلق على سكان أمريكا الشمالية الأصليين اسم الهنود الحمر (مقابل الهنود الأصليين، السمر).

وحتى بعد وصول كولمبس إليها بنحو قرنين ظلت تلك القارة بكرا، وملكا حرا لأهلها، ثم، وهربا من الاضطهاد الديني والسياسي في قارتهم، بدأ الأوربيون بالتدفق عليها، وكعادتهم أينما حلوا، اعتبروا أنفسهم أوصياء على تلك الأرض ومن عليها من بشر، بنفس المنطق والعقلية، التي جعلتهم يسمُّون أنفسهم رسل حضارة، من حقهم غزو بقية دول العالم وإخضاع شعوبها، إلى أن اكتشفت تلك الشعوب أنهم قوم في منتهى الحقارة، يعتبرون أن لون بشرتهم في حد ذاته، دليل على ان الله جعلهم أرقى أهل الأرض، وخصّهم بدين يليق بمكانتهم في الأرض.

وعلمنا التاريخ أن من يتعرضون للقتل حد الإبادة، يصبحون عندما يتمكَّنوا، ويستردوا أنفاسهم تلاميذ لجلاديهم، وطلائع الأوربيين في الأراضي الأمريكية كانوا من البروتستانت، الذين ظلوا منذ تمردهم على بابوية الفاتيكان، وتسلط أمراء أوربا المحتمين بالكنائس، والمؤيدين بالكهنوت الذي أوعزوا لهم أنهم ظلال الله في الأرض. ظلوا منذ ظهورهم كقوة مسيحية "ثورية"، يتعرضون للاضطهاد ثم التصفيات الدموية، بل إن البابا بول الثالث أنشاء كتيبة لتقتيلهم، باعتبارهم مهرطقين .

توافد البروتستانت على القارة الجديدة طلبا للأمان والسلامة، وقرروا أن يكون ذلك على حساب من أسموهم بالهنود الحمر، ثم سرعان ان انقلبوا بعضهم على بعض يتقاتلون، من أجل الذهب والأراضي الخصبة، ولزهاء قرن كامل كان من يتسمون برعاة البقر (الكاوبوي)، يعيشون على القتل بغرض السلب والنهب، وفي أحيان كثيرة، كانوا يجدون "المتعة" في البلطجة الدموية كغاية في حدِّ ذاتها.

وإذا اعتبر التاريخ الإسلامي الحجاج بن يوسف رجلا باطشا ودمويا، رغم أنه لم يمارس الإبادة الجماعية، بل قتل أفرادا معدودين، فإنه يبدو تلميذا خائبا لدهاقنة القتل والتعذيب في أوروبا: هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، وسالزار في البرتغال، وستالين في روسيا وفرانكو في إسبانيا (دعك من الأباطرة الرومان الذين قتلوا من المسيحيين مئات الآلاف).

أصدر الكاتب الأمريكي ستيفن مانسفيلد، مؤلفه "ذا فيث أوف جورج دبليو بوش" ويعني "عقيدة جورج بوش"، وأورد فيها أدلة "بالكوم" حول اقتناع كبار معاوني بوش، بأنهم أصحاب رسالة سماوية، وأنهم مسنودون بالإنجيل والتوراة، ويعود بنا مانسفيلد إلى الوراء سنوات، عندما وقف بوش أمام أحد القساوسة وقال له: "إن الله يريد لي أن أكون رئيسا للبلاد، وقد تلقيت النداء بأن بلادنا ستكون بحاجة إليّ أنا" .

وكما اعتبر الأمريكان انتخاب الأسود باراك أوباما رئيسا لبلادهم دليلا على ترفُّعِهم عن التعصب العرقي، فقد اعتبروا قبلها انتخاب جون كينيدي، دليلا على ترفُّعِهم عن التعصب الديني، لأن كينيدي كان أول وآخر رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة (ومات مقتولا في مدينة دالاس في ولاية تكساس، وما زال اغتياله لغزا، وليس معروفا ما إذا كانت كاثوليكيته سببا في اغتياله).

ومن قبل قال الجنرال وليام بويكن عندما كان مسؤول المخابرات في وزارة الدفاع الأمريكية، "إن إله المسيحيين أقوى من إله الصوماليين (المسلمين)، لأن الرب عند المسيحيين حقيقي، بينما إله المسلمين مجرد صنم" وهل يفيد أن نقول – فقط - للجنرال هذا، إن الصنم شيء محسوس وملموس ويرى بالعين المجردة؟ 

المناضل الجنوب أفريقي المسيحي برتبة أسقف، ديزموند توتو، قال عن الأوربيين، إنهم "أتوا إلينا حاملين الإنجيل وتركوه لنا لنحمله نحن، وحملوا هم ثرواتنا".

الولايات المتحدة التي صارت محجا لكل زعيم (خصوصا فئة: زعم يزعم، فهو زعيم)، ولدت بعد اكتشاف كولمبس لها بثلاثمائة سنة، وكتب قادتها دستورها كدولة مستقلة عن الإمبراطورية البريطانية، في عام 1787، ولكنها لم تصبح دولة موحدة إلا عام 1863، بعد حرب ضروس بين البيض أنفسهم، لأن الولايات الجنوبية رفضت تحرير "العبيد"، الذين هم من نفس الأجناس الذي غزا جنود أوربيون رسميون بلادهم "لانتشالهم من التخلف والبربرية"، وهلك في الحرب الأهلية الأمريكية سبعمائة وخمسون ألف أمريكي فقط لا غير، ولم تكن حربا من أجل مبادئ بل صراعا على السلطة بين الشمال والجنوب .

هذه الولايات المتحدة هي التي يتهافت عليها قادتنا المزمنون طلبا للنصح والإرشاد حول كيفية محاربة التطرف وتحقيق السلام، وهذا كأن تطلب النساء من راقصة مواعظ حول مقتضيات الاحتشام.

وأعتذر لأنني غرّبت وشرّقت، حتى شَرِقت بكلماتي، دون أن أصل إلى غايتي، وهي إيضاح: لماذا التهافت على واشنطن "غبي"؟ وبإذن الله لنا موعد حول هذه النقطة، هنا بعد أيام قليلة.
0
التعليقات (0)