الحج.. سياسة

في مشهد من فيلم (الرحلة الكبرى – 2004) للمخرج الفرنسي من أصل مغربي إسماعيل فروخي، وفي الصحراء العربية حيث يتوقفان لفترة راحة قبل استئناف رحلتها إلى مكة حيث سيؤدي الأب مناسك الحج، وبينما يتيمم الأخير استعدادا للصلاة، يبادره الابن رضا بالسؤال.

رضا: لم أنت مهتم لهذه الدرجة بالذهاب إلى هناك؟ أقصد ما الذي يميز مكة عن غيرها؟
الأب: بعد أن قطعنا كل هذه المسافات تطرح هذا السؤال؟ (تسود فترة صمت كانت الغالبة طوال رحلة الاثنين) مكة هي أقدس مكان للمسلمين. يأتيها الناس من كل بقاع العالم. هي إرث من سيدنا إبراهيم عليه السلام. (يقترب الأب من ابنه أكثر) الحج مهم لأنه الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو واجب على كل مسلم يملك الإمكانيات ولو مرة واحدة في حياته لتطهير نفسه قبل الموت. الموت علينا حق فنحن مجرد عابرين على هذه الأرض. أمنيتي كانت الحج قبل الوفاة وما كنت لأحقق هذا دونك.. حفظك الله يا ولدي.. لقد تعلمت الكثير خلال رحلتنا.

رضا: وأنا أيضا.
للوصول إلى مكة بدأت رحلة رضا ووالده من فرنسا مرورا بإيطاليا وسلوفينيا وكرواتيا وصربيا وبلغاريا وتركيا وسوريا والأردن قبل الوصول إلى مكة المكرمة. للأب فلسفته في الموضوع فبعد معاناة ومشاق السفر يصبح للهدف مذاق ومعنى مختلفان.

في العام 2017، صارت الأمور أكثر تعقيدا حيث وجد مواطنو دولة قطر والمقيمين فيها من الجاليات الإسلامية أنفسهم ممنوعين من أداء مناسك العمرة وبعدها الحج لاعتبارات سياسية أعقبت تحالف أربع دول "شقيقة" ضد الدوحة وحصارها. ولولا تحرك اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في اتجاه المقرر الخاص المعني بحرية الدين والعقيدة في الأمم المتحدة، في بادرة ربما فاجأت دول الحصار، وما حمله تقرير الخارجية الأمريكية بخصوص الحريات الدينية بالسعودية، لما تحركت الأمور في اتجاه الحل مع استثناء المقيمين منه. حل أراده القائمون على خدمة حجاج بيت الله الحرام "سياسيا" كما كان أمر المنع "سياسيا" أيضا.

وكان بإمكان السعودية أن تحقق مكسبا معنويا من الموضوع لو أنها غلبت الجوانب الدينية في تعاملها مع الملف، لكنها أصرت، كما في كثير من قراراتها منذ بدء الحصار، على أن تفلت الفرصة من يدها وهي تقدم الحق في أداء شعيرة الحج "مكرمة ملكية" تتحقق بـ"وساطات" ظاهرها ديني أخروي وباطنها سياسي دنيوي يستهدف تقديم "بدائل وهمية" لحكومة جارة قائمة.

اعتبرت السعودية الشكوى القطرية "دعوة للتدويل" و"أمرا عدوانيا وإعلان حرب"، وهي توصيفات سبقتها ادعاءات باستهداف الحرم المكي من طرف الحوثيين، لمجرد الرغبة في إحكام الحصار على قطر ومواصلة الحرب المستمرة على اليمن منذ ثلاث سنوات دون توفيق. يتناسى هؤلاء أن للبيت ربا يحميه، وفي قصة والي اليمن أبرهة، الذي سعى لهدم الكعبة وجهز لذلك جيشا جرارا، قبل أن ينتهي تحت وابل الطير الأبابيل عبرة لمن له في التاريخ ملجأ وفي الإيمان حصن وملاذ.

كان حريا بالدول الإسلامية، وعلى رأسها راعية الأماكن المقدسة، استغلال أكبر تجمع إسلامي ينتظم بشكل سنوي، لا تؤثر فيه الأزمات الاقتصادية ولا التوترات السياسية ولا الحروب الأهلية والإقليمية، بتحويله إلى منتدى سياسي حقيقي يتحقق فيه إجماع الأمة حول قضاياها المصيرية. لكن التعامل السياسي بمنطق الحروب الصغيرة والدسائس والمؤامرات، حولت موسم الحج لمجرد سياحة دينية بلا روح ولا حمولة فكرية أو تأثير على مصير الأمة ومستقبلها. وأحيانا الله حتى سمعنا مفتيا سابقا للديار المصرية يعتبر الدعوات للتظاهر في الحج من أجل الأقصى "دعوات للوهم والطغيان والمعصية وفساد في الأرض" قبل أن يصفها بأنها "دعوات سياسية نجسة والداعين إليها خوارج".

 وما هذا إلا واحد من النماذج التي أرادت اختصار الحج، الذي كان رمزا لوحدة المسلمين وتعاضضهم، في توسعات وإنشاءات لم تستطع حماية الحجاج من الكوارث التي تعاظمت وصار ضحاياها بالآلاف دون محاسبة أو مجرد تحقيق ينتهي بإقرار العدل الذي نادت به الرسائل السماوية والقوانين الوضعية على السواء.

تصر المملكة العربية السعودية على التذكير، عبر وسائل إعلامها وكتبتها، بالجهد الذي تبذله من مواردها وأمنها وراحة مواطنيها تيسيرا لموسم الحج وخدمة للحجيج. لكن الذي يتغافل عنه المروجون لهذه الرواية هو حجم الأثر السياسي والاقتصادي الذي تجنيه المملكة من توافد الحجاج والمعتمرين على الديار المقدسة دون انقطاع. فالأكيد أن المملكة تستمد هيبتها وقوتها بل شرعيتها من رعاية المقدسات وخدمة الحرمين الشريفين، بما يمثله ذلك من نفوذ سياسي، بلبوس روحي، مكنها من استخدام هذه الورقة خدمة لتوجهات سياسية مرحلية ولتصفية خلافات إقليمية برزت أكثر في السنوات الأخيرة مع تورط المملكة في أتون صراعات توزعت بين الحزبية والمذهبية وتقسيم مناطق النفوذ.

شرعية المملكة السعودية مرتكزة على الحرمين وهو ما يجعل من المناسك المرتبطة بهما عمرة وحجا شأنا سياسيا بامتياز يبدو معه التراشق الإعلامي والديبلوماسي بالاستغلال السياسي أمرا مثيرا للاستغراب. الحج سياسة، والخلاف كله عن ماهية السياسة واتجاهات استثمارها.
الحج سياسة ولولا ذلك ما تم رفع أعداد الحجاج العراقيين لمجرد تودد المملكة العربية السعودية للنظام هناك والطمع في وساطته لإنهاء الخلافات مع الإيرانيين.

الحج سياسة ولولا ذلك ما تمت الاستجابة للشروط الإيرانية نظير عودة حجاجها هذا العام ورفع أعدادهم.
الحج سياسة ولولا ذلك ما أصر وزير الأوقاف اليمني، المقيم بالسعودية، على التذكير بغلبة الحجيج من مناطق سيطرة الحوثيين على البعثة اليمنية في محاولة لإبعاد تهمة التسييس عن مضيفيه.
الحج سياسة ولولا ذلك ما فُتح معبر رفح لأربعة أيام دون سواها لتمكين حجاج القطاع من الإفلات من حصار خانق لا يثير خنق راع ولا رعية.

الحج سياسة ولولا ذلك ما صار سبيلا للتطبيع مع الكيان الصهيوني بعد أن فتح الراعي الأمريكي المجال برحلته المباشرة من الرياض في اتجاه تل أبيب.
الحج سياسة ولولا ذلك ما سمح للمواطن القطري، الأعلى دخلا في العالم، بأداء المناسك على نفقة خادم الحرمين الشريفين في وقت ينتظر فيه ملايين المسلمين المعوزين مكرمة أو تخفيفا للإجراءات والتكاليف.

الحج سياسة ولولا ذلك ما صار الوصول إلى مكة المكرمة مرهونا بتدخلات "وسيط".
الحج سياسة ولولا ذلك ما تحول الحج إلى مجرد شأن سعودي داخلي.
قبل سنوات جاءت البشارة على لسان المطرب محمد عبده الذي قال إن خير البرية وخاتم الأنبياء "سعودي". ذاك كان التصريح والبقية مجرد تفاصيل تتكفل "قنوات الصرف الإعلامي" ومتعهدو حفلات عهر "غرف الأخبار" بتصريفه يوما عن يوم.