قضايا وآراء

الخوف ونظرية (الأعداء في البيت)

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
كل الناس لديهم درجة ما من درجات الخوف، الخوف من المجهول، الخوف من الفشل، الخوف من الفقر، الخوف من الأعداء وبزيادة الخوف تتناقص إلى حدود الغياب صفات إنسانية رائعة مثل الجرأة والإقدام والحب والإبداع والتفكير والتجديد والتطوير والترابط والتراحم، ويندثر مفهوم الخير العام والهم العام وتسود سلوكيات الأنانية والجبن والكذب والتدليس.

ويتحول الخوف إلى(حالة سائدة)في المجتمعات عندما تتلاقى جملة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية   وبالطبع أمنية، وينتشر الخوف وفقا لذلك رأسيا في تراتب السلطة من أسفل درجات السلم إلى أسفله أيضا ولكن من فوق كما وينتشر أفقيا بين جموع الناس في القرى والمدن والبوادي والحواضر فلاحين وعمال وموظفين ومهنيين، حتى يصبح الخوف ماء وهواء وخبزا. 

وأخطر أنواع الخوف وأسوؤها هو ذاك الذي يتم تصنيعه على يد(الدولة) التي تستخدم التهديدات والأزمات(المصنًعة) لتخويف مواطنيها ممن يتربصون بالوطن والدولة وبالطبع الشعب المسكين وتقوم الدولة بتوظيف تلك التهديدات والأزمات لحشد الناس خلفها وخلف أهدافها المعلن منها وغير المعلن، هؤلاء الناس سيكون عليهم بالطبع  الانصياع التام سواء فيما يتوجب عليهم أن يفعلوه أو فما يتوجب عليهم أن يدفعوه، فالحماية والأمن للشعب يتطلب موارد مالية وبشرية، وبسبب تلك التهديدات والمخاطر الملحة، تتوقع الدولة أن يمتثل المواطنون لكل ذلك بسهولة تلبية للصالح العام والأمن العام والخير العام والسكون العام أيضا، وفي حالة لم يكن هناك تهديدات وجودية فعلية -وهو كذلك في الأغلب- تقوم الدولة بصنعها أو تضخيمها لضمان الامتثال التام وتساوم مع الشعب والمجتمع حول الكلفة المطلوبة لتوفير الحماية والأمن,وهو ما يسمى ابتزاز الحماية من منظور (الدولة الحامية) ذاك المصطلح الذي اخترعه عالم الاجتماع والسياسي الكبير هارولد لاسويل (1902-1978) وصاحب (صيغة لاسويل) المعروفة لدى الإعلاميين المتخصصين، والذي يعد من بين أهم خمسة مخترعين ومبدعين في مجال العلوم الاجتماعية في القرن العشرين, أشار لاسويل إلى أن هذه الدولة وفي ظل الحضور الدائم للأزمة والتهديد وانتشار الخوف تسيطر على كل سمات الحياة في المجتمع,ويضيف أن هذه الدولة تكون عادة دكتاتورية,عنيفة,متمركزة ومتكاملة ,وهي تعد أيضا دولة قوية بالقياس إلى مجتمعها الضعيف(الدولة العربية الحديثة نموذجا).  

بروز فكرة الدولة الحامية تحتم صناعة حياة يومية تقع تحت التهديد الدائم من عدو خارجي أو كما سنبين لاحقا عدو داخلي وهذا ما سيسفر عن تكوين ما يسمى( المختصون بالعنف)من الجنود والشرطة وأجهزة الاستخبارات ومساعدوهم المدنيون من الكتاب والإعلاميون والتكنوقراط، ما سيجعلهم المجموعة الأقوى في المجتمع ذات الحيثية والنفاذ,لاحقا ستتكون من هؤلاء (صفوة مغلقة) أو ما يمكن تسميته (تحالف المكاسب) التي سرعان ما سيتشكل منها شبكة مصالح وعلاقات معقدة عائلات وأفراد ونجوم فن ورياضة ومؤسسات خاصة وعامة وتكنوقراط وقضاة وشركات أعمال ودور إعلام ونشر ويتم أثناء ذلك كله عملية توالد وتوارث لمواقع النفوذ والتأثير داخلها.وتنحصر انشغالات هذه الصفوة المغلقة داخل الدولة الحامية في إبقاء الروح المعنوية للشعب والنظام الداخلي وإدارة الاقتصاد والإعلام ومؤسسات الحكم في كلتا يديها.

العدو الداخلي- كما الخارجي- أحد أهم ضرورات وجود الدولة الحامية وإن لم يوجد أوجدناه!!، ولتبدأ رحلة البحث عن (الأعداء في البيت) وهى أسوأ صور التخويف وأخطرها لأنها تفتت المجتمع وتقسمه وتستعدى بعضه بعضا هذه الرحلة الوعرة ستكشف عورات هذا الدولة وسوأتها وتظهر شراستها وعنفها البالغ وستسمع ليلا ونهارا ومرارا وتكرارا شعار (تصفية الخونة) وسيصبح المعارضون السياسيون والجماعات السياسية وحتى الأقليات والجمعيات الاجتماعية والخدمية سيصبح كل هؤلاء أعداء الوطن ووحدته، المتربصون بالدولة وهيبتها، والشعب وسلامته وأمنه,سيكون المواطن البسيط وقتها في أمس الحاجة إلى (الحماية) ما يجعله في موقف ضعيف للغاية وستتم أخس عملية مساومة بينه وبين تلك الدولة فبقاؤه واستمرار الحياة العادية، حياة كل يوم، يتطلب منه الإذعان والاستجابة التامة ودون أي رفض أو مقاومة لأشياء تعد وفق كل التصنيفات والمعايير الدولية من أبسط مكونات الحياة الإنسانية وستصبح قصة (الحماية) هي عملة التداول بين السلطة والشعب.

ستتكشف فكرة الأمن القومي عن وجه أخر اسمه(أمن النظام الحاكم)، وستبرز الطبيعة بالغة التناقض بالغة السوء بالغة الكذب لفكرة الأمن والأمان في الدولة العربية الحديثة ما يجعل لكلام لاسويل كل هذا المعنى الذي كان له.

الخاسر الأكبر من انتشار ثقافة الخوف هو الأخلاق,وخسارتها تكون ذات أثر بالغ ومروع وخطير على قوام المجتمع كله و(شوقي) شاعر العروبة والإسلام في بيته الشهير: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فان همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا ربط ربطا سديا بين الأخلاق وبقاء الأمم وقد كان موفقا للغاية في هذا الربط.

وهو ما سيأخذنا إلى الارتباط التام بين الدين والأخلاق,والخالق العظيم وصف خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم بأنه (على خلق عظيم) ليس مجرد خلق عادى بل عظيم وهو الذي قال من مجامع الكلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و(المقولة الذهبية) لابن القيم في ذلك شديدة الدلالة والقوة والوضوح (إنما الدين الخلق، فمن زاد عنك في الخلق زاد عنك في الدين ومن نقص عنك في الخلق نقص عنك في الدين). 

ارتباط الدين بالأخلاق بقوة المجتمع ومن ثم (حصار الدولة) بتعبير العلامة د/عبد الوهاب المسيري هذا الارتباط هو الطريق والهدف والوسيلة والغاية والمسعى والمأمول. إنها الإشراقة الأولى للرسالة كلها أيها الناس.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل