مقالات مختارة

لبنان وأمريكا... والحذر

خير الله خير الله
1300x600
1300x600
لعلّ آخر ما يحتاجه لبنان هو زجّ نفسه في صراعات إقليمية لا تسمح له تركيبته الداخلية وظروفه الراهنة بتحمّل نتائجها وانعكاساتها. لم تكن تمثيلية جرود عرسال، التي لعب «حزب الله» دور البطولة فيها، سوى فصل آخر من مسلسل يستهدف جرّ لبنان إلى أن يكون جزءا لا يتجزّأ من «محور الممانعة» الذي صار اسمه «البدر الشيعي»، حسب التوصيف الإيراني.

هذا معناه أن يكون لبنان تابعا لإيران، حاله حال النظام السوري أو الحكم العراقي الذي قبل أن يكون «الحشد الشعبي» الذي يضمّ ميليشيات مذهبية تابعة لأحزاب معيّنة عنوانا لمستقبل العراق. الأكيد أن لبنان الذي يخوض منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، معركة المحافظة على الذات، يجد نفسه مضطرا إلى اعتماد سياسة الحذر.

يبدو الحذر اكثر من ضرورة عندما يتعلّق الأمر بالتعاطي مع الولايات المتحدة التي امتلكت في كلّ وقت سياسة تتجاوز لبنان وحدوده. كانت هناك دائما سياسة أمريكية تنظر إلى لبنان من زاوية الاهتمام بالمنطقة ككلّ بعيدا عن التفسيرات المضحكة لبعض المسيحيين اللبنانيين الذين اعتقدوا أن الإنزال العسكري الأمريكي على الشاطئ اللبناني في العام 1958 كان من اجل لبنان أو من أجلهم، في حين انّه جاء بعد الانقلاب العسكري الدموي في العراق يوم الرابع عشر من تمّوز – يوليو من تلك السنة. كان الهدف الأمريكي من الإنزال عرض قوّة على الشاطئ اللبناني لطمأنة حلفاء الحلفاء الإقليميين والحؤول دون أن يكون للانقلاب العراقي فعل الدومينو في المنطقة.

في أواخر العام 1975، جاء المبعوث الأمريكي دين براون إلى لبنان. طوّر الغباء المسيحي فكرة انّه أتى من اجل تهجير المسيحيين منه وانهّ اصطحب معه سفنا أمريكية لأخذ المسيحيين إلى أمريكا. هل من خيال مريض يستطيع بلوغ هذا الحدّ من الهلوسة المتمثلة في سفن أمريكية تتسع لمسيحيي لبنان كي ينتهوا في الولايات المتحدة أو غير الولايات المتحدة؟

لم يكن من هدف أمريكي في تلك المرحلة سوى ضبط الوضع اللبناني والحؤول دون مواجهة عسكرية سورية - إسرائيلية يمكن أن يتسبّب بها الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان الذي يُعتبر نتيجة مباشرة لاضطرار البلد إلى توقيع اتفاق القاهرة.

كان مسيحيو لبنان واللبنانيون ولبنان كلّه آخر هموم الإدارة الأمريكية حين كان هنري كيسينجر الرجل الأساسي في واشنطن بصفة كونه وزيرا للخارجية ومستشارا للأمن القومي في مرحلة انتقالية تلت استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون وحلول جيرالد فورد مكانه. كان كيسينجر يفكّر فقط في كيفية السيطرة على «مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية». وجد ضالته أخيرا في الجيش السوري بعدما ابدى حافظ الأسد استعداد لتولي مهمة وضع اليد على كل المواقع التي كان مقاتلو منظمة التحرير موجودين فيها في لبنان. بالطبع، وضعت إسرائيل لاحقا ما سمّته «الخطوط الحمر» لانتشار الجيش السوري في لبنان. كانت «في حاجة إلى الاشتباك بين وقت وآخر مع الفلسطينيين في جنوب لبنان». عزت ذلك إلى أسباب مرتبطة بتفاهم ما مع النظام السوري على بقاء جبهة الجنوب مفتوحة لأغراض تخدم الجانبين، خصوصا بعدما استتب الهدوء التام على جبهة الجولان منذ العام 1974.

لا حاجة إلى العودة إلى مرحلة الوجود السوري في لبنان والى حرب 1982 التي شنتها إسرائيل من اجل إخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان. لا حاجة بالطبع إلى التذكير بان لبنان كان الخاسر الأول في تلك الحرب ولا إلى الوعود الأمريكية إلى الرئيس أمين الجميّل التي بقيت مجرّد وعود. عند أول هجمة على السفارة الأمريكية في بيروت، وهي عمل إرهابي تلاه تفجير مقرّ «المارينز» قرب المطار، انسحبت الولايات المتحدة من لبنان.

كانت أمريكا في عهد رونالد ريغان تعرف جيدا من وراء تفجير سفارة بيروت ومقرّ «المارينز» في العام 1983. لم تفعل شيئا. فضلت الانسحاب وترك لبنان للنظامين السوري والإيراني وذلك في وقت بدأت طهران تعزز وجودها في لبنان بكل الوسائل الممكنة.

كذلك، لا حاجة إلى العودة إلى ما تعرّض له لبنان في العام 1990، حين جددت الإدارة الأمريكية للوصاية السورية في لبنان مكافأة لحافظ الأسد على مشاركته في حرب تحرير الكويت إلى جانب الجيش الأمريكي.

من يسمع كلام الرئيس دونالد ترامب لدى استقباله رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري يدرك أن الإدارة الأمريكية تدرك تماما ما هو «حزب الله» وما يشكله من تهديد للبنان واللبنانيين وللمنطقة ككلّ. كان مهمّا أن يجمع ترامب بين الإرهابين السنّي والشيعي وان يصف «حزب الله» بطريقة دقيقة. لم يفرّق بين «داعش» السنّي و»الدواعش» الشيعية. اظهر في الوقت ذاته أن إدارته ليست مستعدة للتغطية على ما ترتكبه ايران وميليشياتها المذهبية في المنطقة من اجل حماية المفاوضات في شأن ملّفها النووي، على غرار ما فعل باراك أوباما. كان الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني هدفا بحد ذاته لأوباما. يمكن أن يكون ترامب مستعدا للتعايش مع هذا الاتفاق، كما يمكن أن يتخلّص منه يوما.

ليست لدى ترامب عقدة ايران. على العكس من ذلك، يبدو انّه يعرف، مع الرجال الأساسيين في إدارته، ما هو الدور الإيراني في مجال الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية وتأجيجها. كلّ ما يصدر عن الرئيس الأمريكي كلام سليم، بما في ذلك موقفه من بشّار الأسد ونظامه. ولكن هل ما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية ستنتقل من الكلام إلى الأعمال... أم تبقى مجرّد متفرّج على ما يدور في المنطقة تاركة لبنان لمصيره في ظلّ غياب أوروبي فاضح وقناعة عربية، تزداد يوما بعد يوم، بانّ البلد وقع تحت الوصاية الإيرانية؟

من حقّ الرئيس سعد الحريري أن يكون في غاية الحذر، خصوصا أن الهدف بالنسبة إليه هو حماية لبنان. وحده الحذر يسمح للبنان بحماية ما بقي من مؤسساته، بما في ذلك مؤسسة الجيش اللبناني. هذا الحذر الضروري سمح بتفادي الفراغ الرئاسي في لبنان وسمح للبلد بكسب بعض الوقت في انتظار انتخابات نيابية قد تجري أو لا تجري في أيار - مايو 2018. هذا الحذر أتاح للبنان فسحة التفكير في كيفية العمل من اجل أن لا تكون العقوبات الأمريكية على «حزب الله» عقوبات على المصارف اللبنانية التي تشكل بالفعل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني.

لا شكّ أن لبنان في وضع غير مريح. كان سيكون في وضع أسوأ لو لم يعتمد سعد الحريري الحذر. فترامب نفسه في وضع قلق. كذلك، أن الصعوبات التي يواجهها تزداد يوما بعد يوم، خصوصا بعد تمرّد الحزب الجمهوري عليه وقرر فرض عقوبات جديدة على روسيا. وهذا تطوّر لا يمكن الاستخفاف به ويفرض طرح أسئلة من نوع هل السياسة الواضحة للرئيس الأمريكي تجاه ايران وأدواتها وتجاه النظام السوري ستجد ترجمة لها على ارض الواقع بما يعزز دور مؤسسات الدولة اللبنانية أم تبقى كلاما جميلا لا اكثر؟ انّه كلام كان يقوله رونالد ريغان قبل أن يترك لبنان لمصير بائس، في ليلة ليس فيها ضوء قمر، تحت رحمة النظامين في سوريا وايران؟

المستقبل اللبنانية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل