ملفات وتقارير

تشدد الفتوى.. ورع أم تضييق على المكلفين؟.. علماء يجيبون

يفضل بعض العلماء البقاء في المساحة الآمنة - جيتي
يفضل بعض العلماء البقاء في المساحة الآمنة - جيتي

تجنح بعض الاتجاهات الدينية إلى تضييق مساحات المباح، وتغليب المنع سدا للذرائع التي قد تفضي إلى الوقوع في الحرام، والأخذ بالأحوط باعتباره ورعا في الدين وفقا لباحثين شرعيين.

ويظهر ذلك المسلك بشكل واضح في التعامل مع المستجدات المعاصرة، خاصة في بعض المجتمعات المحافظة، التي يُغلب علماؤها في بادئ الأمر جانب المنع سدا للذرائع، ثم ما تلبث حدة المنع أن تتراجع بعد انتشار تلك الوسائل وشيوعها في المجتمعات.

وبحسب مراقبين فإن ذلك المسلك الجانح إلى المنع، سرعان ما يتحول إلى تعديل الفتوى من المنع إلى الإباحة مع مراعاة الضوابط الشرعية اللازمة، حدث ذلك مع البنوك الإسلامية، والصحون اللاقطة (الدشات)، وأجهزة الخلوي المزودة بالكاميرات..الخ.

من جهته أرجع أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية، عبد الله الكيلاني ذلك المسلك إلى كون "العقل الإنساني الديني غالبا يميل إلى التحريم والمنع ليبقى في دائرة الأحوط ، والأورع في الدين".

وقال الكيلاني لـ"عربي21"، إن من قطعيات الشريعة ومسلماتها أن تحريم الحلال لا يجوز، وهو تماما كتحليل الحرام"، لافتا إلى الآثار السلبية المترتبة على تحريم الحلال دينيا واجتماعيا واقتصاديا.

واستحضر الكيلاني ما قاله سفيان الثوري "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" موضحا أن مسارعة بعضهم إلى تحريم المستجدات ومنعها والتشديد على الناس في ذلك أمر يحسنه كل أحد، أما النظر الفقهي المتأني المنضبط بالأصول الشرعية الذي يوازن بين المصالح والمفاسد فهو الأمر الصعب والشاق.

وأكدّ الكيلاني أن "إيقاع الناس في الحرج ليس من الدين"، مستحسنا ما يراه بعض علماء المقاصد، كفقيه المقاصد المغربي الدكتور أحمد الريسوني، من دعوتهم إلى فتح الذرائع بدل سدها، ما دامت تحقق مصالح الناس، مع مراعاة الضوابط والآداب الشرعية، متسائلا: "لماذا نغلب المنع ونأخذ به دائما؟".

وجوابا عن سؤال "هل سد الذرائع يقتضي تغليب جانب المنع دائما؟" قال الكيلاني: "سد الذرائع مبدأ مستقر في الشريعة، لكن تطبيقاته ليست كذلك، لأن العمل به يكون حينما تكون المفسدة على نحو غالب، أما إن كانت نادرة الوقوع فتقدر بقدرها".

ومثّل لذلك بأن العلماء لم يفتوا بحرمة زراعة العنب، الذي هو مظنة لصناعة الخمر منه، وإنما اقتصرت فتوى التحريم على بيع العنب للخمار، لأن المفسدة غالبا ما تكون متحققة في تلك الحال.

وانتقد الكيلاني مسلك بعض المتدينين الذين لشدة جنوحهم إلى التحريم والمنع كأنما يريدون منع ما جعله الله مباحا، وهي تلك المساحات التي تركها المشرع توسعة على المكلفين، وتيسيرا لشؤون حياتهم.

وبيّن أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية أن الأحكام الشرعية كما هو معروف خمسة أحكام، والمباح هو أحد تلك الأحكام، متسائلا: "لماذا يريد البعض بسلوكهم العملي قصر الأحكام على الحلال والحرام فقط؟".

ولفت الكيلاني إلى أن التخوف من وقوع بعض المحاذير لا يكون بالمنع والتحريم، وإنما بالتعليم والبيان والتوجيه والإرشاد مع الإبقاء على مساحات المباح كما أرادها الشارع الكريم.

برؤية مغايرة رأى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في مؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا في المغرب، الناجي لمين أن "كثيرا من العلماء الذين لهم تأثير في الساحة الإسلامية اليوم تجاوزوا حدود الانضباط بالقواعد العلمية المتعارف عليها عند علمائنا الأقدمين".

وأضاف لـ"عربي21": "فرخصوا في مواضع لا تحتاج إلى ترخيص، بل خالفوا الإجماع أحيانا تحت تأثير الواقع"، معتذرا عن ذكر الأسماء والشواهد".

وتابع: "نعم إن المحققين من العلماء يقولون: الفتوى رخصة من فقيه يحسنها، وأما التشدد فالكل يحسنه، فالتشدد في الفتوى غير محمود، ولكننا نرى  اليوم أن جمعا من العلماء البارزين جعلوا الرخص عزائم، وهذا هو الذي يجب التنبيه عليه" على حد قوله.

بدوره أوضح الباحث الشرعي السوري، علي محمد زينو أن "الأخذ بالأحوط ليس من التشدد في الدين والفتوى، لأن الأخذ به منهج نبوي منصوص عليه".

ووفقا لما ذكره العلماء فإن "الأخذ بالأحوط يتعين في الحالة التي يرتاب فيها المسلم في أمر من الأمور، أو حينما يتحرج منه"، فماذا يفعل حينئذ؟ يأخذ بالأحوط كما قال صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ويتبع قوله عليه الصلاة والسلام "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

وردا على سؤال "عربي21": "كيف ينظر إلى سلوك بعض الاتجاهات الدينية التي تجنح إلى التشديد في الفتوى، أخذا بالأحوط، واعتباره الأورع في الدين؟ وهل الأمر كذلك أم بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر؟".

أجاب زينو: "نعم يتجه البعض إلى التشديد بناء على عقلية خاصة تميل إلى تغليب التحريم، ولو بتطويع النصوص أو بعضها"، مضيفا أن "هذه منهجية تحتاج علاجا بالتمكين العلمي لأصحابها وأتباعها".

وأوضح الباحث الشرعي السوري أن "كتب مناهج الفتوى أرشدت المفتي إلى حمل المستفتي على الأشد قبل وقوع الواقعة ردعا له، وأن عليه أن يبحث عن الأخفّ بعد وقوعها".

ونفى زينو أن يكون الأخذ بسد الذرائع من التشدد، كما إن الفقهاء القائلين به ليسوا من فقهاء التشدد كذلك، مبينا أن "الفقهاء كلهم يقولون بسد الذرائع وفتحها بحسب الحال، بناء على تحقق المصلحة المعتبرة، وانتفاء المفسدة المنصوص عليها".

وتوضيحا لمفهوم "فتح الذرائع" الذي يقابل مفهوم "سد الذرائع"، بيّن زينو أن المقصود بذلك هو "استعمال الوسيلة التي تؤدي إلى تحقيق مصلحة معتبرة".

ووفقا لباحثين شرعيين فإن "من آثار التشدد في الفتوى، والتوجه الصارم لإلزام المسلمين باختيارات فقهية معينة، نزوع بعض المسلمين إلى اتهام بعضهم بعضا، بسب أعمال فعلوها، مما يقع في دائرة الاختلاف الفقهي السائغ والمقبول"، داعين إلى "ضرورة إشاعة ثقافة التنوع الفقهي، وإعذار المخالف واحترام اختياره ما دام يتبع مذهبا فقهيا معتبرا".
التعليقات (0)