كتاب عربي 21

في أزمة الخليج: هل من موضوع فلسطيني؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
الحملة الشديدة على قطر، كانت مفاجئة، واتخذت طابعا ماديّا قاسيا من حصار وغيره، أنذر باحتمالات الهجوم العسكري، وذلك سوى الهجمة الإعلامية.

افتقرت الهجمة إلى الرصانة، ولم تَدَعْ شيئا من التوازنات المألوفة إلا وحطمته بكل رعونة، وذلك بعد ما بدا من انسجام قطري سعودي، وانزياح قطري نسبي من بعض المشاهد الإقليمية لصالح القيادة السعودية، وتحول قطري واضح في سياسة قناة الجزيرة التحريرية، وفي الانضمام لحملة السعودية على اليمن، مع تبريد واضح كذلك في المناكفات الإعلامية القطرية الإماراتية..

ذلك كلّه، وغيره جعل الحملة غير مفهومة لأكثر المراقبين، الذين ما اختلفوا في شيء من الحوادث السياسية الجارية، بقدر اختلافهم في تفسير السلوك السعودي الإماراتي، وفي محاولة ترتيب أولوياته وأسبابه، وإن كان مدبّرًا أمريكيًّا، أم قائمًا في بعض منه على الفراغ الذي يخلّفه تراجع الولايات المتحدة في المنطقة، وإن كان محض تنافس إقليمي، يستثمر في لحظة ترامب، أم بعضًا من خطة إقليمية أشمل تروم التحالف مع "إسرائيل"، أو على الأقل تلتقي معها في محاولة استثمار لحظة ترامب!

ينضاف إلى تلك الأسباب ما قيل كثيرًا، وظل يتردد عن سعي محمد بن سلمان لإزاحة ابن عمه من ولاية العهد لأجل الوصول السريع إلى الملك، وإذا كان هذا قد تحقق بالفعل، فإن ما ينبغي النظر فيه الآن، صلة ذلك بحصار قطر، فمجرد حصارها لا يتصل اتصالاً واضحًا بمسألة الصراع على العرش، إلا من زاوية تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية لضمان الدعم لأجل وصوله إلى الملك، وها قد استمر الحصار، حتى بعد إزاحته ابن عمه محمد بن نايف..

أمّا حكاية تصريحات الأمير تميم المفبركة على موقع وكالة الأنباء القطرية بعد اختراقه، فلم يعد أحد يأتي على ذكرها الآن، لأن أحدًا عاقلاً لم يصدقها منذ البداية، ودول الحصار لا تريد منك تصديقها، فاللعب على المكشوف إلى درجة تخلو من كل عرف دبلوماسي، وهي لم تكن أساسًا، أي فبركة تلك التصريحات، إلا متكأ لبدء الهجوم..

إنّ كل أسباب الصراع والخلاف التاريخية، بين كل من الإمارات، والسعودية، وقطر، يمكن جمعها، وجعلها في سلة الأسباب المفتعلة الراهنة، ولن يخطئ أحد في ذلك؛ إنها أسلم طريقة كي يضمن كل من يشتغل بالتعقيب على الحدث السياسي ألا يتعقبه أحد بعد ذلك، لكن ذلك غير مفيد في الحقيقة، لأنه لا يقول لنا شيئا محددا عن السبب المباشر، أو العوامل التي استدعت تلك الأسباب التاريخية وفعّلتها في أزمة راهنة.

لا شك أن الحسد يفترس الناس من نجاح جيرانهم وأبناء عمومتهم، وهنا يمكننا القول إن الاستثمارات القطرية، ولاسيما شركتها للطيران، تبدو مستفزة لجارها الإماراتي، مع انهيار أسعار النفط، كما أن الأمير السعودي الساعي نحو الملك يحتاج رديفًا اقتصاديًّا لدعم مغامراته الطائشة، وهذه الحاجة تغري بقطر.

مع غياب حياة سياسية، والانتفاء التام للمجتمع المدني في دول الحصار، وتمزق المنطقة العربية، واختلال التوازن فيها، وانهيار الدول الوازنة تاريخيًّا في المنطقة العربية، ومع الانسحاب الأميركي من المنطقة وانقسام نخبة المؤسسة الأميركية الحاكمة، ومجيء حاكم متهور للبيت الأبيض يمكن التربيط معه من خلال مجموعات الضغط الصهيونية التي بنت دولة الإمارات معها علاقاتها وأحكمتها منذ زمن؛ مع كل ذلك، تصير السياسة الهوجاء ممكنة بلا حرج، وحصار قطر، وحتى ضربها عسكريًّا لا يعود مستبعدا بالضرورة.

لا يتعلق الأمر بالاقتصاد وحده، وإنما هي لحظات الانهيار ومجيء ترامب وفراغ المنطقة وانكسار موجة الثورات العربية، التي تُمكّن محمد بن زايد، الحاكم الفعلي لإمارة أبو ظبي، والراعي الإقليمي الأهم للثورات المضادة؛ من المبادرة لاقتناص الفرصة، وتصفية بقايا الثورات العربية، والإجهاز على الإسلاميين، وبالضرورة إخضاع الجارة اللدود، المنافس والمعارض الدائم لسياسات أبو ظبي، وهو المعارض الثري المغري بالسرقة والابتزاز!

هل من مكان لـ "إسرائيل" في كل ذلك؟!

بعيدا عن حكاية "صفقة القرن" التي جاءت على لسان السيسي في لقائه ترامب، وبعيدًا عن مشروع (دولة غزة + سيناء) القديم المتجدد منسوبًا للسيسي أيضًا، وهي أفكار، حتى لو تكررت منذ عقود، تظل قائمة ومحتملة، فأكثر المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية كانت أفكارًا تتكرر لسنوات طويلة. إن استهلاك الأفكار والمخططات في الطرح الإعلامي والمخاوف العربية، لا يعني أبدًا أنها لم تعد في حيّز المؤامرة.

لكن بعيدا عن ذلك، وبشكل مباشر، من الواضح أن محمد بن سلمان احتاج لمحمد بن زايد لربطه بالنخب الحاكمة الأكثر تصهينًا في الولايات المتحدة الأميركية، لتمرير انقلابه الناعم على ابن عمه، وتوفير الدعم له، وابن زايد كان قد أحكم علاقاته مع تلك الدوائر منذ فترة طويلة، وعلى النحو الذي ربط سياسات الإمارات في المنطقة وطموحاتها برؤى ومصالح تلك النخب، والمرتبطة بالضرورة بـ "إسرائيل".

سعوديّا؛ الأمر أقدم من حصار قطر. الحديث عن تطبيع سعودي إسرائيلي، أو في الحدّ الأدنى اتصالات تطمح للوصول لمرحلة التطبيع مرورًا بمرحلة التعاون، كانت مبكرة منذ صعود نجم محمد بن سلمان، هنا تحديدًا لا يجوز إغفال تحركات أنور عشقي، ولا تصريحات بنيامين نتنياهو، ولا الترويج السعودي اللحوح لإحلال إيران عدوًّا مكان "إسرائيل"، وأخيرًا الإيعاز لبعض الكتاب للترويج في الصحافة السعودية للتطبيع مع "إسرائيل" منذ مطلع هذا الشهر، يونيو/ حزيران، وقد أخذت الأوساط الإعلامية الإسرائيلية تحتفي بهذه الكتابات.. إنها السعودية، التي تجرّم مجرد التعاطف مع قطر، والتي لا يكتب فيها أحد بما يخالف توجهات "طويل العمر".

والحق أن الأمر صار معلنًا، ويبدو أنه جُهّز قبل مجيء ترامب، وهو ما تشي به اتصالات وتحركات ترامب صوب المنطقة فور وصوله البيت الأبيض، ثم ما تلا ذلك من تسريبات وتكهنات وتصريحات بعد استقباله بنيامين نتنياهو، مطلع هذا العام، وقد تأكد أن ثمة مشروعًا لبناء تطبيع عربي صهيوني دون حلّ للقضية الفلسطينية، تحدث بشأنه ترامب صراحة مع عباس في زيارته الأخيرة، وحاول السيسي حمل عباس على تبنيه في قمة البحر الميت الأخيرة.. وعلى الأرجح هو مشروع عربي إسرائيلي، قبل أن يصير ترامبيًّا!

هل يمكن القول إن تلك التحركات التطبيعية منفصلة تمامًا عن حصار قطر؟

مرة أخرى، بعيدا عن الحديث في العناوين الضخمة، من قبيل صفقة القرن ودولة سيناء، يمكن ترتيب الأمر على النحو التالي.

ثمة أسباب خاصة لكل من الإمارات والسعودية لحصار قطر وربما الإجهاز عليها وتجريدها من دورها الإقليمي المستقل والحدّ من نجاحاتها الاقتصادية، وربما الاستيلاء على ثرواتها، لكن ذلك يحتاج إلى إسناد من الولايات المتحدة الأمريكية، واللعب على تناقضاتها الداخلية، وبما أن محمد بن زايد قد كوّن شبكة علاقات محكمة مع الأوساط الأكثر صهينة فيها، كان لا بدّ بالضرورة من حضور ما لـ "إسرائيل" في الموضوع كله.

"إسرائيل"، بدورها تسعى لاستغلال لحظة ترامب، لإنجاز ما يمكن إنجازه وتصفية ما يمكن تصفيته في الموضوع الفلسطيني، وهنا تلتقي التطلعات بصرف النظر عن الأهداف الخاصة بكل طرف، وإن خيّرت "إسرائيل" في أزمة كهذه، فستكون السعودية بالنسبة لها مكسبا أكبر من قطر بما لا يقارن. لا شك في هذا، وسوف ترحّب "إسرائيل" بلا تردد بتقديم خدماتها، إن كان مكسبها الإستراتيجي والدعائي بهذا الحجم!

سيقول متسائل: كل هذا الربط يبدو ممكنا ولا يوجد ما يمنع تصوره، ولكن كيف نفسّر تقديم هذا المحور الذي تُشكّل الإمارات عقدته؛ محمد دحلان منقذا لحماس؟ هل حماس مجرد جسر لإرجاعه للمشهد الفلسطيني؟ جسر يمكن هدمه لاحقا؟! هذا محتمل. لكن ثمة احتمال آخر، يعيدنا مرغمين للعناوين الكبيرة، تلك العناوين التي تحتاج إلى غزة، قضية قائمة بذاتها، تبحث عن خلاصها. 
التعليقات (0)