كتاب عربي 21

اشتعال فوضى حرب "الإرهاب"

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
يمكن القول إن فوضى "حرب الإرهاب" اشتعلت في المنطقة، فمع اقتراب إخراج تنظيم "الدولة الإسلامية" من مناطق سيطرته المكانية الرئيسية في مدينة الموصل العراقية ومدينة الرقة السورية وما بينهما من فضاءات جيوسياسية، استعرت المنافسة بين أطراف الصراع الإقليمي والدولي والحركات الفاعلة المرتبطة بها من غير الدول للسيطرة على الأراضي التي كانت خاضعة لنفوذ وحكامة تنظيم "الدولة"،  فقد باتت الأراضي الممتدة من الرقة عبر وادي نهر الفرات إلى الحدود مع العراق والصحراء السورية المعروفة باسم البادية ساحة صراع بين مختلف القوى، فالميليشيات الشيعية التي يقودها "فيلق القدس" التابع لـ "الحرس الثوري" الإيراني، صعّدت عملياتها للسيطرة على نقاط العبور على الحدود السورية العراقية والاستيلاء على أراضٍ في الجانب السوري، فيما عملت الولايات المتحدة على إنشاء قواعد عسكرية عديدة في المناطق الحدودية للحيلولة دون إنفراد إيران بالسيطرة على المعابر، وحرمانها من خلق فضاء جيوسياسي متصب بين طهران والمتوسط، وفي ذات الوقت تعمل تركيا على منع قيام كيان كردي متصل وتأسيس دويلة كردية على حدودها، فيما تضطلع روسيا بتثبيت سيطرتها على أكبر قدر ممكن من سورية.

في هذا السياق برزت الديناميكية الأساسية لموضوعة "حرب الإرهاب"، فقد برهنت الأحداث الجارية في سورية والعراق خصوصا والمنطقة العربية عموما، أن مسألة "الإرهاب" حالة عرضية في مجال "اللعبة الدولية"، فقد كشفت التطورات الميدانية المتسارعة في العراق وسورية عن جوهر الصراع على المنطقة  وقضية السيطرة والهيمنة والنفوذ.

 أساطير السياسة الدولية المتعلقة بالحرب على "الإرهاب" بدت فوضوية وتفتقر إلى الحد الأدنى من المنطق، ذلك أن أطراف الصراع الدولي والإقليمي والمحلي استثمرت اللعبة الإرهابوية ودفعتها إلى حدود الفوضى، حيث يصعب التوصل إلى تعريف محدد للإرهاب بعيدا عن لعبة القوة والهيمنة والسيطرة، فعلى الصعيد الإقليمي تجاوزت الأنظمة المحلية الحركات والمنظمات الموصوفة بالإرهابية، ودخلت في رمي بعضها بتهمة دعم وتمويل "الإرهاب".

فوضى "حرب الإرهاب" نجمت عن اختلال الرؤية الأمريكية الخاصة بـ "الإرهاب"، والتي عملت معظم الدول على استنساخها وتوسيعها بحيث تحول "الإرهاب" إلى كائن خرافي أسطوري من عوالم خيالية، حيث تقوم الولايات المتحدة بدعم كافة الأطراف التي طالما كانت متهمة بصلتها بالإرهاب بطرائق مختلفة، وقد كشفت الأزمة الخليجية عن عمق الاختلالات الأمريكية وتناقضاتها البنيوية، ففي الوقت الذي يتهم الرئيس الأمريكي قطر برعاية الإرهاب، تقوم الولايات المتحدة ببيع طائرات مقاتلة لقطر، وتؤكد على دورها الأساسي في حرب الإرهاب.

الفوضى الإرهابية لا نظير لها في سورية، حيث تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على المقاتلين الأكراد الذين تصفهم تركيا بالإرهابيين، فضلا عن إقرار الإدارة الأمريكية باعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة أرهابية، وفي نفس الوقت تؤكد الولايات المتحدة  على أهمية الدور التركي في حرب الإرهاب، فضلا عن كون تركيا إحدى دول "حلف شمال الأطلسي"، كما أنها حليفة لقطر التي بدورها تضم أهم قاعدة عسكرية في المنطقة في حرب الإرهاب، ومن خلالها تقوم واشنطن بحملتها الجوية لاستعادة مدينة الرقة المعقل الرئيسي لتنظيم "الدولة الإسلامية" في سورية.

وفي ذات الوقت الذي تتهم الولايات المتحدة روسيا بالتواطؤ مع الحكومة السورية في الهجمات الكيميائية التي نفّذتها هذه الحكومة ضد شعبها، وتعتبرها شريكة وداعمة للإرهاب في مناطق عديدة، فهي تتعاون مع موسكو في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وغيرها من الحركات المتناسلة من القاعدة.

وعلى الرغم من تأكيد الولايات المتحدة على ضلوع الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة بدعم وتمويل الإرهاب، وتحميلها مسؤولية فوضى الإرهاب، فإن واشنطن ضالعة في مساندة ودعم الدكتاتوريات دون أدنى مساءلة، الأمر الذي يؤكد على أن الإميريالية والدكتاتورية منظومات إيديولوجية متضامنة ذات طبيعة عسكرية تسعى إلى الهيمنة والتحكم والسيطرة والنهب والتخريب، وتستهدف قمع خيارات الشعوب وطموحاتها بالتحرر والاستقلالية والديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة، وهي تعمد إلى استخدام كافة الوسائل والأدوات لتعزيز الانقسامات والاختلافات داخل المجتمعات المستهدفة لضمان مصالحها وديمومة تفردها بالسيادة والحكم.

إرهاصات فوضى حرب الإرهاب بدأت منذ أن حددت الولايات المتحدة مفاهيمها الخاصة بالاعتدال والإرهاب في العالم عموما وفي العراق وسورية خصوصا، إذ يقع في دائرة الاعتدال كل من يقف إلى جانبها في قتال تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهي تتعامل مع الحركات الجهادية السورية كما تعاملت مع نظيرتها العراقية سابقا، حيث تعمل على توظيفها كأدوات في مكافحة التمرد، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه لا كملهاة بل كمأساة، فالحركات الجهادية السورية تتبع خطوات نظيرتها العراقية 2006 ــ 2008، حيث تم إقناع الفصائل العراقية بأولوية قتال "الدولة الإسلامية" باعتبارها تحول دون تحقيق مصالح السنة من جهة، وكونها ذريعة للتمدد الإيراني، لكن استراتيجية مكافحة التمرد، كما وصفها الجنرال ديفيد بتريوس في "الدليل الميداني لمكافحة التمرد الخاص بقوات مشاة البحرية في الجيش الأمريكي" لعام 2006، تستدعي مقاربةً من ثلاث ركائز تعرف بـ "الإخلاء، والحفظ، والبناء"، وتعني: طرد المتمردين من منطقة معينة، ومنعهم من العودة، وبناء مؤسسات محلية تساعد السكان على المضي قدماً.
تستدعي وظيفة "الاخلاء" في العراق وسورية استدخال كافة الفصائل المستعدة للانخراط في قتال التمرد الأساس المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية دون تشتيت المنظور بمواجهة قوى أخرى ليست رئيسية.

فقد حالت الولايات المتحدة دون سقوط نظام الأسد، بل إنها تعمل على الحفاظ عليه وإشراكه في مراحل لاحقة كشريك في حرب "الإرهاب"، أما مهمة "الحفظ" فهي تسعى للسيطرة على الأراضي بعد إخلائها من خلال قوى موثوقة أمريكيا لا تتمتع بها الفصائل الجهادية السورية مطلقا، بل سوف تطالها عمليات الملاحقة والاستئصال كما حدث لفصائل المقاومة العراقية سابقا، أما وظيفة "البناء" فهي تهدف لإقامة حكومة ديمقراطية شكلانية طيعة موالية.

لم تتعلم الولايات المتحدة من درس التاريخ القريب، وهي لا تزال تعيد إنتاج الخطايا والأخطاء، وكما أفضت سياساتها في العراق إلى تمدد وهيمنة إيران التي تدعي أنها دولة راعية للإرهاب، سوف تفضي سياساتها في سورية إلى توسع النفوذ الإيراني وسيطرته شبه الكاملة على المناطق الممتدة كم طهران إلى بيروت، فعلى الرغم من تعريف أمريكا لإيران كدولة راعية للإرهاب وإدراج مليشيات شيعية تابعة لها على لوائحها الخاصة بالمنظمات الإرهابية بدءا من المليشيات العراقية والسورية واللبنانية وفي مقدمتها "حزب الله"، إلا أن واشنطن تعاملت فعليا مع المليشيات الشيعية الموالية لإيران كحليف أمريكي  في حرب الإرهاب.

مشاهد فوضى "حرب الإرهاب" باتت سوداوية في العالم العربي، وهي سوريالية في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث وسعت دول المجلس المدعومة أمريكيا مداركها الإرهابوية بوضع قوائم واسعة للمنظمات والأشخاص المتهمين بالإرهاب، وتجاوزتها إلى إتهام دولة قطر بدعم الإرهاب، وتلخص الحالة "الإخوانية"  تناقضات وفوضى مسألة الإرهاب في دول المجلس، ففي الوقت الذي تصر السعودية والإمارات على إرهابية جماعة الإخوان المسلمين، فإن الجماعة جزء من النظام السياسي الكويتي والبحريني، وهم ممثلون في البرلمانات، وفي الوقت الذي تضعهم السعودية على لوائحها الإرهابية، تتعامل معهم في اليمن كشركاء في حرب الإرهاب وتستضيف قيادات حزب "التجمع اليمني للإصلاح".

خلاصة القول أن فوضى "حرب الإرهاب" اشتعلت في المنطقة، وإذا كانت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" المكانية على مساحات واسعة في العراق وسورية شكلت مخاطر سياسية وتهديدات أمنية عديدة، ساهمت بإخفاء الأجندة الدولية والإقليمية للسيطرة والهيمنة، فإن فقدان تنظيم "الدولة الإسلامية" لمناطق سيطرته المدينية الحضرية أشد خطورة، حين تتكشف الأجندة  الحقيقية الخفية، حيث تشتعل الحروب مرة أخرى على أسس جيوسياسية دون أن تغادرنا ثيمة حرب "الإرهاب" وقتل "الإرهابيين".
0
التعليقات (0)