كتاب عربي 21

دفاعا عن الديمقراطية وبروتس

جعفر عباس
1300x600
1300x600
فوز ايمانويل ماكرون بكرسي الرئاسة في فرنسا، حجر في حلوق الساسة العرب، الذين يرددون بكل وقاحة وبجاحة، أن الديمقراطية الغربية بضاعة مستوردة، وأنها توصل فقط "المسنودين" بالمال إلى السلطة!! طيب ها أنتم مسنودون بالمال والعيال والسلطة، ولكنكم لا تثقون بصناديق الاقتراع، لأنكم تعرفون أنكم  تفتقرون للسند الشعبي.

ماكرون من مواليد ديسمبر 1977، وليسهل عليك حساب عمره فاعتبره مولودا في يناير من عام 1987، يعني ما زال من حيث السن، في مطلع الأربعينيات، وعمره في العمل الحزبي عام واحد، فقد أسس حزب إلى الأمام في إبريل من العام الفائت (2016)، وهزم سياسيين مخضرمين ينتمون إلى أحزاب "تاريخية" يمينية ويسارية، رغم أن حزبه هذا ليس لديه ممثل واحد في البرلمان الفرنسي.

وهذا في حد ذاته شهادة على أن الشعوب الواعية، تختار حكامها، بعد أن تحكم عليهم بالبرامج التي يطرحونها، وهنا سيصرخ أكثر من شامت: شوف الأمريكان إيش سووا في الانتخابات وفوزوا هبنقة الأبله دونالد ترامب.

شفت وما زلت شايف ما فعله الناخبون الأمريكان، ولكنني لا أعتقد أن الأمريكان عموما يتحلون بالوعي السياسي، كما أهل فرنسا أو بريطانيا، ففي الانتخابات الأمريكية فإن جمال وخصال زوجة المرشح للرئاسة – مثلا - لها تأثير على الناخبين، وبما أن الولايات  المتحدة دولة فيدرالية (اتحادية) حقيقية، فإن مواطنيها يهتمون كثيرا بشؤون ولاياتهم، ويدققون في اختيار حكام ومجالس تشريع الولايات، ويعتبرون الحكومة الاتحادية المركزية كائنا غريبا عليهم بعض الشيء.

فرنسا هي مسقط رأس الديمقراطية، التي تبنتها كل الدول الغربية، وكثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أسلوبا للتداول السلمي للسلطة، فالثورة العظمى التي انتصرت في فرنسا وطرحت شعارات الحرية والإخوة والمساواة في أواخر القرن الثامن عشر، مرت بعثرات وكبوات عجمت عودها، فتعلم الساسة الفرنسيون أن الديمقراطية مجرد "آلية" لتنفيذ برامج تقود إلى سيادة القانون والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.

أعرف أن القارئ ليس بحاجة إلى درس في التاريخ الأوروبي، واعترف بأنني لست ضليعا في هذا المجال، ولكنني أعرف التاريخ العربي الحديث لأنني "شاهد شاف كل حاجة"، بعكس سرحان عبد البصير، الذي جعله الخوف من "السلطة" يعتقد أن اسمه سرحان عبد السفنكير.

يا جماعة أنتم تشككون في جدوى الديمقراطية الغربية المستوردة، بينما لا ترون غضاضة في نقل هياكل الحكم في الدول الغربية، من وزارات وهيئات ومؤسسات ومناصب بالمسطرة، ولكن ما أن يرتفع صوت مواطن مطالبا بـ"الشفافية"، حتى يتعرض للشكم والكتم والحسم، لأن الشفافية "عيب" في مجتمعات حشمة ومحافظة، وعندما يصبح من كان لا يملك القرش صاحب كرش ممتلئ بالسحت تتساءل: من أين له هذا؟ فيرد عليك مفتي السلطان: ملك الملوك إذا وهب / لا تسألن عن السبب / الله يعطي من يشاء / فكُن على حد الأدب.

يا عرب القرن الحادي والعشرين، كانت هناك دولة اسمها الجمهورية الرومانية قبل ميلاد المسيح بأكثر من قرن، يدير شؤون الحكم فيها مجلس تشريعي يحمل اسم الـ"سينيت/ Senate"، وهو الاسم الذي ما زالت الكثير من الدول الديمقراطية تستخدمه لمجالسها التشريعية.

وجلس على كرسي الرئاسة في الجمهورية الرومانية، يوليوس قيصر، وكان سياسيا وقائدا عسكريا بارعا، أخضع معظم أوربا لسيطرته، وركبه الغرور وصار يتجاهل قرارات السينيت، وتسبب في نشوب حرب أهلية انتصر فيها، ثم صادر سلطات حكام الأقاليم وأعاد هيكلة الدولة، وبلغ به الغرور أن أصدر ما يعرف بالتقويم الجولياني (قام بإلغائه في عام 1582 البابا غريغوري الثالث عشر وطرح ما صار يعرف إلى يومنا هذا بالتقويم الغريغوري، والذي يسميه العرب "الميلادي").

ولأن السلطة المطلقة تفسد السلطان إفسادا مطلقا، فقد قرر قيصر تنصيب نفسه "ديكتاتورا أبديا" وهذه التسمية ليست من عندي، بل هي ترجمة أمينة للقب الذي اختاره لنفسه، وهو
Perpetual Dictator.

فما كان من أنصار الديمقراطية، وعلى رأسهم صديق قيصر الحميم ماركوس جونياس بروتس، ومعه ساسة مرموقون مثل كاسيوس وكاسكا وآخرين إلا أن قرروا قتله، وتم لهم ذلك، وصار الناس في كل مكان يستخدمون عبارة "et tu, Brute حتى أنت يا بروتس" لوصف كل من "يغدر" بصديقه، في حين أن بروتس فعل ذلك انتصارا للديمقراطية، وانحيازا لسلطة الشعب، واختار أن يقف مع الحق، وليس مع صديق يقترف الباطل، ويصادر حقوق شعب بأكمله.

وغرور يوليوس قيصر الذي جعل منه ديكتاتورا ثم قتيلا، أدى في نهاية الأمر إلى سلسلة من الحروب، أدت الى وأد الجمهورية، وميلاد الإمبراطورية الرومانية التي لم يكن أي من أباطرتها يأبه لرأي الشعب
أرجو أن أكون قد وُفقْت في رد بعض الاعتبار للديمقراطية وأحد أبرز المدافعين عنها: بروتس.
0
التعليقات (0)