قضايا وآراء

إيمانويل ماكرون يصنع الحدث

محمد مالكي
1300x600
1300x600
توقعنا في مقال الأسبوع الماضي، المنشور في "عربي21"، فوز "إيمانويل ماكرون" متبوعاً بـ"مارين لوبين" عن "الجبهة الوطنية الفرنسية"، وقد أسسنا توقعنا على متابعة ما يجري من نقاشات داخل المشهد الحزبي والسياسي الفرنسي، وما يصدر عن استطلاعات الرأي من نتائج حول حظوظ المرشحين في مراتب التناقس الرئاسي. وفعلا، أكدت نتائج الطور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية فوز "ماكرون" بـ9،23%، متبوعاً بـ"مارين لوبان" بـ4،21%، في حين جاء مرشح اليمين والوسط "فرانسوا فيون" في المرتبة الثالثة بأ9،19%، وبعده مرشح اليسار "جان ليك ميلنشون" في المرتبة الرابعة بـ19،6%. أما نسبة المشاركة في الاقتراع، فجاءت أقل بقليل من نظيرتها في العام 2012، حيث لم تتجاوز عتبة السبعين في المائة، ويظل اقتراع 2002 أكثر الرئاسيات من حيث نسبة المشاركة من قبل الناخبين الفرنسيين.

صنع "إيمانويل ماكرون" فعلا الحدث في فرنسا، ودون شك سيصنع الحدث في الدور الثاني للاقتراع الرئاسي في السابع من مايو/ أيار المقبل. أما دلائلُه في صُنع الحدث، فحصرها الكثيرون في قدرته، وكفاءة محيطه من النخبة السياسية، في إطلاق حركة  "إلى الأمام  En marche"، لتكون إطاراً مفتوحاً لتجميع الفرنسيين، ومرجعية جديدة للتفكير، تقطع مع المنظومة الحزبية القديمة، الجمهوريون والاشتراكيون على حد سواء، وتؤسس نمطا مبتكرا لتلاقح الأفكار، وتقاطع المبادرات، دون الانغلاق في فكر بعينه، أو إيديولوجية بذاتها. ثم إن حركة "إلى الأمام"، ولعل هذا من أهم عناصر قوتها، استطاعت في زمن قياسي لم يتجاوز السنة الواحدة من التحول إلى نهر بشري متطلع إلى التمرد على الرتابة السياسية، ومُشرئب إلى التغيير الذي تنشدُه قطاعات واسعة من الفرنسيين، الذين ملّوا الخطابات التقليدية، وتبرموا من خذلانها لمطامحهم.. والحقيقة أن لم تمر على تأسيس الحركة عدة شهور حتى أصبح مناضلوها وأنصارها معدودين بالآلاف، وغدت مكاتبهم في كل المحافظات الفرنسية بالمئات، وتوالت اجتماعاتهم وأنشطتهم التعبوية والسياسية، مستغلين في ذلك باقتدار المساحات الواسعة والفعالة التي تتيحها الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي. يُضاف إلى هذا  القدرة الفائقة للحركة على ربط جسور التواصل مع أكثر القطاعات نوعية وتأثيراً في النسيج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الفرنسي. لذلك، لم يكن صدفة أن لقي زعيمها "ماكرون" دعماً أكبر وأوسع من غيره من المرشحين، حتى حين قدم نفسه مستقلاً ودون غطاء حزبي وسياسي، فقد كانت الحركة كافية لمنحه الرداء المطلوب لاقتحام غمار المنافسة نحو قصر "الإليزيه".

لا شك أن "ماكرون" عبر حركته كان ذكياً ـ  وهو القادم من أرقى المدارس المنتجة للنخب القائدة في فرنسا ENA، أي "المدرسة الوطنية للإدارة"، والمتمرس على الاقتصاد والمال في كبريات الشركات، والمتولي لحقيبة الاقتصاد في حكومة "هولاند" قبل أن يستقيل منها ـ حين ترشح مُستقلا، على الرغم من اعتباره من قبل الكثير من الفرنسيين "الابن الشرعي لفراننسوا هولاند"، ودخل غمار المنافسات دون يافطة حزبية، مُستغلاً ذكاءه في تقديم نفسه مرشح كل فئات المجتمع الفرنسي، والجامع لآمالهم وتطلعاتهم. وقد يكون صدفة أو من مكر التاريخ أن ظهر "ماكرون" في لحظة سياسية موسومة بترهل الأحزاب الكبيرة التي حكمت فرنسا منذ أكثر من نصف قرن، أي منذ تأسيس الجمهورية الخامسة خريف 1958. 

هل سيصنع "ماكرون" الحدث في الدور الثاني من الاقتراع الرئاسي؟ نعم كل المؤشرات تقول إن نصيبه من صنع الحدث، أي الفوز بالرئاسة وارد جدا، إن لم يكن حتميا، لاعتبارات عديدة. فمن جهة، لم يجف مداد الإعلان غير النهائي عن نتائج الدور الأول حتى تقاطرت تصريحات تأييد "ماكرون" من قبل منافسيه قبل القريبين منه، عبر عن هذا زعيم "الجمهوريين"، أي اليمين والوسط " فرانسوا فيون"، ومرشح "الحزب الاشتراكي" "بنوا هامون"، ودعا إلى ذلك كل من رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشيوخ السابق "رافاران". ثم تُنبه ردود فعل الأوروبية والدولية إزاء نتائج الطور الأول على أن ثمة ارتياحاً لفوز "ماكرون"، ودعوة صريحة لدعمه في المرحلة المقبلة ليظفر بالفوز النهائي، وتُقطع الطريق على اليمين المتطرف، كما حصل عام 2002.
 
لكن لا نتوقع، بالمقابل، أن يكون القادم من الأحداث سهلاً بالنسبة لـ"إيمانويل ماكرون"، فالمرحلة تحتاج منه جهوداً كبيرة لبناء التأييد حول شخصه ومشروعه، أولا برسم صورة عن خيارات المستقبل تستطيع إقناع الجميع بأن "ماكرون" وإن كان مختلفاً عنهم فهو الأقل ضررا بالنسبة إليهم، ينطبق هذا أساساً على الجمهوريين، أي اليمين والوسط، كما تُحفز عائلة اليسار بكل ألوانها على دعمه والاستمرار في دعمه ومناصرته، وهذا أيضا يتطلب مهارة واقتدارا من جانبه في بث روح الطمأنينة في صفوف الاشتراكيين عموماً. علاوة على أن "ماكرون" ليس مطالباً في النجاح في جمع منافسيه من اليمين والوسط واليسار حول شخصه ومشروعه لكسب رهان الدور الثاني والدخول منتصراً إلى الإليزيه فحسب، بل سيكون أمام رهان آخر مع شهر يونيو القادم، أي الانتخابات التشريعية، ودون شك سيجمع الجمهوريون قوامهم للفوز بأغلبية نيابية تصنع قوة مضادة لمؤسسة الرئيس، أي العودة إلى حالة سياسية عاشها الفرنسيون في عهدي "ميتران" في الثمانينيات، و"شيراك" في التسعينيات، أي ما يسمى " التساكن" Cohabitation بين رئيس جمهورية وأغلبية برلمانية من غير لونه السياسي.
التعليقات (0)

خبر عاجل