كتاب عربي 21

التقاعد والقعود والصعود

جعفر عباس
1300x600
1300x600
حتى الأمريكان، الذين عاش جون غودإيناف بينهم لأكثر من تسعة عقود، لا يعرفون عنه كثير شيء، فلا أحد يحفل في الولايات المتحدة وغير المتحدة، إلا بسِيَر الأغنياء والعاملين في مجالات السينما والتلفزيون والموسيقى والغناء، وغودإيناف يعيش على راتبه الشهري، رغم أن شركة سوني وغيرها من الشركات الصناعية، بنت أمجادها على اختراعه لبطارية الليثيوم، التي أحدثت ثورة في عالم التكنولوجيا، وصارت مصدر الطاقة للهواتف والكاميرات والكمبيوترات وغيرها.

في مارس الماضي، فاجأ غودإيناف، الأستاذ الآن بجامعة تكساس – أوستن العالم، بتطوير بطارية ذات قعر معدني، تحتفظ بثلاثة أضعاف الطاقة التي تحتفظ بها بطارية الليثيوم، أي أنها تبقى مشحونة لمدة طويلة، مما يعني أنها ستؤدي إلى طفرة في التحول إلى السيارات الكهربائية بالكامل، لأن السيارة تستطيع أن تقطع بها نحو ألف كيلومتر، دون أن تحتاج إلى إعادة شحن، وحتى إعادة شحن هذه البطارية لا يستغرق سوى دقائق.

ومعظم شركات السيارات العالمية – على رأسها شركة تيلسا – تنتج سلفا سيارات كهربائية، ولكنها مزودة بنظام هجين، بحيث تعمل بالوقود النفطي، إذا نفدت طاقة بطارية الكهرباء، في حين أن بطارية غودإيناف ستلغي الحاجة إلى وجود خزان وقود احتياطي في أي سيارة، لأنها تستمر في توليد الطاقة اللازمة لجعل السيارة تنطلق لعشر ساعات متواصلة (لمن يقود السيارة بسرعة 100 كيلو في الساعة).

هذه البطارية ستمثل ثورة صناعية ذات طعم خاص، فالطاقة الكربونية من نفط وغاز وفخم يمكن تخزينها وحرقها عند اللزوم، في حين أن ما يسمى بالطاقة المتجددة (الشمس والرياح)، لا تتوفر إلا حسب الحالة المزاجية للمناخ، في حين أن هذه البطارية تبقى فاعلة ومتجددة على الدوام، ولا تنتج أي ملوثات للهواء.

شخصيا لا يهمني أمر هذه البطارية، بل كون أن جون غودإيناف اخترعها وعمره 94 سنة، وفي هذا رسالة مهمة لأنظمة الخدمة العامة في الدول العربية التي يحال الناس فيها بموجبها إلى الأرشيف، بمجرد بلوغ الستين أو الخامسة والستين، فلا يهم أن المهني – مثلا – في تلك السن، يكون قد اختزن في سنامه تجارب نحو 40 سنة في مجال عمله، وصار أكثر استعدادا للعطاء، بل المهم أن يتقاعد ليفسح المجال لغيره ليترقى وظيفيا، لأن الخدمة العامة عندنا ميدان خيري، تحشر فيه الحكومات مئات الآلاف والملايين، ليتسنى لها الزعم بأنها خلقت وظائف جديدة، وخفضت معدلات البطالة.

رونالد ريغان خاض الانتخابات الرئاسية الأمريكية وعمره 70 سنة، وبيتر روجيه ثيسوراس كان مدرسا حتى تقاعد وهو فوق الستين، وكان مصابا باضطراب الوسواس القهري، الذي يجعل التفكير مشوشا، فيقوم المصاب بتكرار فعل ما عشرات المرات: مثل غسل اليدين وإعادة حساب / عد الأشياء، ونتف شعر الجسم، وقاده ذلك الاضطراب المرضي إلى هوس بمترادفات مفردات اللغة الإنجليزية، فأنتج أشهر قاموس (روجيه ثيسوراس) الذي صدرت منه عشرات الملايين من النسخ، وصار مرجعا لكل دارس متعمق للإنجليزية، أو عامل في مجال الترجمة من الإنجليزية وإليها.

وهل منا من لم يتعامل مع دجاج كنتاكي المقلي بالزيت، بل ويدمنه، ولا يعرف لأي نوع من الدجاج المطبوخ نفس مذاقه؟ خاض الكولونيل ساندرز تجربة تسويق ذلك النوع من الدجاج المتبل بوصفة معينة وهو فوق الستين، ولم يجد الرواج لسلعته في عشرات المحلات التي افتتحها هنا وهناك، ولكن وببلوغه السبعين، كان دجاج كنتاكي قد انتشر في جميع القارات، بل وإننا في السودان فرحون باحتمال رفع العقوبات الأمريكية عن بلادنا، حتى نأكل دجاج كنتاكي (الذي صار اسمه كيه. إف. سي).

عندنا تبلغ الستين، وتحاول أن تمارس عملا ما بانتظام، يقولون لك: كفى، واسأل الله حسن الخاتمة!! اجلس في سجادة الصلاة واصرف ما تبقى من عمرك في العبادة!! ولماذا لا تنصحونني بسؤال الله حسن الخاتمة وأنا في العشرين أو الثلاثين؟ وهل المكوث طويلا على سجادة الصلاة وأنا فوق الستين "أوفر تايم" أي أنال عليه أجرا إضافيا، أم أنه المطلوب من كل مسلم أن يكثر من الصلاة خاصة في سن الشباب حيث الإنسان أكثر ميلا للطيش والنزق؟

فرغم أننا قدريون، إلا أننا نتصرف بعقلية أن الإنسان يكون "مرشحا للموت"، بعد سن الستين، ولهذا، ونحن نحسب أننا نترفق بكبار السن منا، بأن نطلب منهم أن يكفوا عن الحركة والنشاط، فإننا نريد لهم أن يتخلوا عن مبدأ "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا"، وأن يركزوا فقط على دعم رصيدهم ليوم الحساب العظيم.

جون غودإيناف وأمثاله في الغرب "الكافر" يظلون يقدحون أذهانهم، ويعملون ويبدعون دون اعتبار لأعمارهم البيولوجية، فيصعدون سلالم المجد، وتصعد معهم البشرية إلى مراقٍ رفيعة، بينما نحن نريد لكبار السن أن يقعدوا ويتبطلوا، وكلمة تقاعد من "قعد يقعد قعودا"، بينما تقابلها في الإنجليزية "ريتاير retire" ومعناها الأصلي الارتياح.
0
التعليقات (0)