شيطنة الثورات استراتيجية دوليةٌ محكمةُ التأسيس والبناء والتنفيذ نهضت بها أطراف إقليمية يومَ كانت القوى العالمية والنظام الرسمي العربي أعجز من مواجهة الملايين الزاحفة في الساحات والميادين..
لن تكون المعركة قصيرة بل ستتطلب تضحيات جسام تصحح أخطاء الماضي وتضع في المشهد جيلا جديدا متحررا من أحقاد الأيديولوجيا وأمراض السلطة ووهم الزعامة والفكر والحكمة والتكتيك وحقوق الإنسان..
بعد عشر سنوات من عمر التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها المنطقة تقف الأمة على أطلال خراب عظيم سبّبه رفض النظام الرسمي العربي الاستجابة لمطالب الثورات بعد أن قرر محاربتها بالحديد والنار والإرهاب..
لقد صار القصر الرئاسي غرفة سوداء مظلمة تُرتّب فيها تفاصيل الانقلاب وتحاك فيها مراحل تفكيك المنجز الثوري وتخاط فيها أثواب الدستور الجديد والأوامر الرئاسية العليّة وتحدد فيها قوائم المشمولين بغضب الزعيم الجديد أو المحاطين برعايته وعطفه..
دون ترميم الشخصية القاعدية سلوكا وأداء وقيما فإن كل الثورات والتغيرات سيكون مصيرها الفشل لأن مدار التغيير وشرط نجاحه هو الإنسان فالأممُ الأخلاق أولا والأخلاق أخيرا..
بدأت جبهة مقاومة الانقلاب في التشكل عبر تنظيمات مختلفة ومن خلال مواقف فردية لشخصيات وطنية سياسية أو فكرية أو إعلامية أو مدنية. لكن الملاحظ في هذه الجبهة الوطنية أنها ضمّت قوى من مختلف المشارب بل جمعت شخصيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وحدث الفرز الأكبر..
يحدث الانقلاب بخلاف الثورة من داخل النظام نفسه سواء بالقوة العسكرية أو بنوع آخر من القوى المادية أو المعنوية كما حدث في تونس وليبيا ومصر والسودان. فإذا كان مصدر الثورة خارجا مكانا عن نطاق السلطة أي في الشوارع والميادين فإن مصدر اندلاع الانقلاب لا يكون إلا من داخل السلطة نفسها..
لم تجد الدولة العميقة أي نواة النظام السابق صعوبة تذكر في التسلل وتصدّر المشهد ثم إزاحة الجميع خلال العملية الانقلابية الأخيرة. إن الانقلاب الذي عرفته تونس ليس إلا عنوانا لفشل النخب المحلية وتتويجا لمسارات فشلها وفي كونها قد أخطأت اللحظة التاريخية في زمان لم يكن زمانها ودور لم يكن دورها..
لقد راكمت تونس طوال تاريخها الحديث تجارب سياسية وحزبية نشطة خلقت حركية مجتمعية هامة مع وجود مجتمع مدني قويّ نسبيا مقارنة ببقية الدول العربية الأخرى. صحيح أيضا أن هذا البناء لا يزال هشا لكنه صعب التجاوز أو الاجتثاث لأنه تحوّل إلى ما يشبه الثقافة الجمعية..
كأس العرب في الحقيقة عنوان جديد من عناوين ثبات الرؤية ولا علاقة له بالثروة والمال لأن دولا عربية أخرى تفوق ثرواتها أضعافا ثروات الدوحة لكنها لا تملك كلّها شروط السيادة الأربع : الرؤية والمبدأ والمنهج والمثابرة.
إن السياق العام الذي يندرج فيه الوعي الشعبي القاعدي هو الركيزة الأساسية التي قامت عليها عملية إعادة إنتاج الاستبداد خلال السنوات العشر الماضية. هذا السياق يتكوّن أساسا من النخب التي تصوغ مضامينه ومن المجتمعات التي تستقبل هذه المضامين ومن المنابر الإعلامية التي تروّج لها..
لا يمكن لأي انقلاب أن ينجح ما لم يخرج قائده في ثوب الرجل المنقذ والزعيم المخلّص والقائد الملهم وهو الأمر الذي يستلزم استكمال شروط الإنقاذ والخلاص. هنا يكون سياق الأزمات أفضل الظروف الممكنة لإنجاح الانقلابات..
"الجزيرة" قناة الفتنة لأنها أيقظت الشعوب من غفلتها وحررت عقولها من قوالب الإعلام الرسمي الذي مارس عليها دهرا من التضليل والترهيب وصناعة الأصنام. حررت "الجزيرة" العقل العربي من أوهامه التي صنعها بنفسه وقدّمت ما عجزت عنه القنوات العربية الأخرى مجتمعة رغم كل حملات الشيطنة والتخوين..
ما هي مآلات المنطقة العربية بعد تصفية آخر قلاع الربيع العربي؟ هل يعني ذلك نهاية الثورة أو نهاية طورها الأول؟ ألا تجازف الأنظمة العربية بتجاهل المطالب الشعبية؟ هل يكفي القمع بالسلاح والانقلاب على المسارات لتحقيق الأمن والاستقرار؟
الثورة مسارات ومطبات وانتكاسات ونجاحات، لكنها رغم كل انكساراتها فإنها تتعلّم ذاتيا وتُصحح اتجاهاتها آليا بشكل ستكون معه قادرة على التجدد بنسق أكثر نضجا وصرامة وحزما وأقلّ قابلية للانتكاس والانقلاب..
يقف الانقلاب التونسي أمام مخرجين لا ثالث لهما: إما التمسك بالحكم ومزيد تركيز السلطات في يد الرئاسة وما سيترتب عن ذلك من اعتقالات وقمع وسطو على الحريات الفردية والجماعية، أو سقوط الانقلاب والعودة إلى المسار الديمقراطي وإلى الشرعية الدستورية بآليات جديدة..